قوله تعالى : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } ، في الآخرة . وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا . وسأل نجدة بن نفيع ابن عباس عن هذه الآية ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيا من أحياء العرب ، فتثاقلوا عليه ، فأمسك عنهم المطر ، فكان ذلك عذابهم .
قوله تعالى :{ ويستبدل قوما غيركم } خيرا منكم وأطوع . قال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس . وقيل : هم أهل اليمن ، { ولا تضروه شيئا } ، بترككم النفير .
ثم هددهم ، سبحانه ، بالعذاب الأليم ، إن لم ينفروا للجهاد في سبيله فقال { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } .
أى : { إِلاَّ تَنفِرُواْ } ، أيها المؤمنين ، للجهاد كما أمركم رسولكم { يُعَذِّبْكُمْ } الله { عَذَاباً أَلِيماً } في الدنيا بإنزال المصائب ، بكم ، وفى الآخرة بنار جهنم .
وقوله : { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أى : ويستبدل بكم قوما يطيعون رسوله في العسر واليسر ، والمنشط والمكره . . كما قال : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } قال صاحب المنار : قيل المراد بهؤلاء القوم : أهل اليمن ، وقيل أهل فارس وليس في محله ، فإن الكلام للتهديد ، والله يعلم أنه لا يقع اشلرط ولا جزاؤه .
وإنما المراد يطيعونه - سبحانه - ويطيعون رسوله ، لأنه قد وعده بالنصر ؛ وإظهار دينه ، فإن لم يكن هذا الإِظهار بأيديكم . فلا بد أن يكون بأيدى غيركم { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } وقد مضت سنته - تعالى - بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها ، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الامام ، فكيف إذا كان الأمام والقائد هو النبى الموعود من ربه بالنصر .
والضمير في قوله { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } يعود إلى الله ، تعالى .
أى : إن تباطأتم " أيها المؤمنون " عن الجهاد ، يعذبكم الله عذاباً أليما ويستبدل بكم قوماً سواكم لنصرة نبيه ، ولن تضروا الله شيئاً من الضرر بسبب تقاعسكم . لأنكم أنتم الفقراء إليه ، وهو ، سبحانه ، الغنى الحميد .
وقيل : الضمير يعود للرسول ، - صلى الله عليه وسلم - أى : ولا تضروا الرسول شيئاً ما من الضرر بسبب تثاقلكم عن الجهاد ، لأن الله قد وعده بالنصر ووعده كائن لا محاله .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مؤكد لما قبله .
أى : والله ، تعالى : على كل شئ من الأشياء قدير ، ولا يعجزه أمر ، ولا يحول دون نفاذ مشيئته حائل ، فامتثلوا أمره لتفوزوا برضوانه .
فأنت ترى أن هذه الآية وسابقتها قد اشتملت على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد ، وترهب عن النكوص عنه ، وتبعث على الطاعة لله ولرسوله .
{ إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله ، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم : إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله ، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا . وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول : يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم ، ينفرون إذا استنفروا ، ويجيبونه إذا دعوا ، ويطيعون الله ورسوله . وَلا تَضُرّوه شَيْئا يقول : ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا ، لأنه لا حاجة به إليكم ، بل أنتم أهل الحاجة إليه ، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه : والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير . وقد ذكر أن العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : ثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي ، قال : ثني نجدة الخراساني ، قال : سمعت ابن عباس ، سئل عن قوله : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيّا من أحيار العرب ، فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر ، فكان ذلك عذابهم ، فذلك قوله : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة ، قال : سألت ابن عباس ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فكان عذابهم أن أمسك عنهم المطر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما استنفر الله المؤمنين في لهبان الحرّ في غزوة تبوك قبل الشأم على ما يعلم الله من الجهد .
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : قال : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وقال : ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ . . . إلى قوله : لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ فنسختها الآية التي تلتها : ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
قال أبو جعفر : ولا خبر بالذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكروا يجب التسليم له ، ولا حجة تأتي بصحة ذلك ، وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد . وجائز أن يكون قوله : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما لخاصّ من الناس ، ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينفر على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس . وإذا كان ذلك كذلك ، كان قوله : ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها ، وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض ، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر . وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الاَيتين نسخ للأخرى ، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عُنِيَتْ به .
وقوله { إلا تنفروا } الآية ، { إلا تنفروا يعذبكم } شرط وجواب ، وقوله { يعذبكم } لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة ، والتهديد بعمومه أشد تخويفاً ، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به ، و { أليم } بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب : [ الوافر ]
أمن ريحانة الداعي السميع *** . . {[5654]}
وقوله { ويستبدل قوماً غيركم } توعد بأن يبدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً لا يقعدون عند استنفاره إياهم ، والضمير في وقوله { ولا تضروه شيئاً } عائد على الله عز وجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه ، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أليق ، { والله على كل شيء قدير } أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع .