الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم خوفهم: {إلا تنفروا} في غزاة تبوك إلى عدوكم، {يعذبكم عذابا أليما}، يعنى وجيعا، {ويستبدل قوما غيركم} أمثل منكم، وأطوع لله منكم، {ولا تضروه شيئا}، يعنى ولا تنقصوا من ملكه شيئا بمعصيتكم إياه، إنما تنقصون أنفسكم، {والله على كل شيء} أراده {قدير}، إن شاء عذبكم واستبدل بكم قوما غيركم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. "وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ "يقول: يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله. "وَلا تَضُرّوه شَيْئا" يقول: ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء.

"واللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير. وقد ذكر أن العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم. وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة...

ولا خبر بالذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكروا يجب التسليم له، ولا حجة تأتي بصحة ذلك، وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين... وجائز أن يكون قوله: "إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما" لخاصّ من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينفر على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: "ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً" نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها، وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عُنِيَتْ به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر، وإن كانت في المؤمنين فيحتمل قوله: (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) يحل بهم. ولم يبين ما ذلك العذاب؟ وقال بعضهم: شدد الله الوعيد في تركهم النفر والخروج في سبيل الله على ما شدد ببدر في التولية الدبر بقوله: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) الآية [الأنفال: 16] غير أنه شدد يوم بدر لما لم يكن ملجأ، وكان نفارهم نِفار نفاق. وههنا شدد لغير ذلك لوجوه.

أحدها: لما في تخلف المؤمنين عنه موضع العذر للمنافقين بالتخلف عنه أنهم تخلفوا للعذر، فنحن نتخلف أيضا للعذر، ولنا في ذلك عذر.

والثاني: يكون للكفار موضع الاحتجاج عليهم؛ يقولون: إنهم يرغبوننا في الآخرة، ويحثوننا في ذلك، ثم إنهم ينفرون عن ذلك، ويرغبون عنه.

والثالث: يكون في تخلفهم الشوكة على المسلمين؛ إذ يقلون إذا تخلفوا...

وقوله تعالى: (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) على ما استبدلكم يا أهل مكة، فينصروه. وقال بعض أهل التأويل: (ويستبدل قوما غيركم) أي ينشئ قوما غيركم، لكن تأويل الأول أشبه. ألا ترى أنه قال في آخره: (إلا تنصروه فقد نصره الله)؟ [التوبة: 40].

وقوله تعالى: (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) هو ما ذكرنا أي لا تضروا رسول الله بالتخلف عنه. وقال بعضهم: لا تضروا الله شيئا. والأول أشبه لما ذكرنا...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

العذابُ الأليمُ إذا أعرض العَبْدُ عن الطاعةِ ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردُّه إلى الباب. العذابُ الأليمُ أنْ يَسْلُبَه حلاوةَ النَّجوى إذا آب. العذابُ الأليمُ الصدُودُ يومَ الورود،..

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِلاَّ تَنفِرُواْ} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً: وقيل: الضمير للرسول: أي ولا تضروه، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل: يريد بقوله: {قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] أهل اليمن. وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن التخصيص...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ، فِي تَرْكِ النَّفِيرِ.

وَمِنْ مُحَقَّقَاتِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُودِهِ أَكْثَرُ من اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ؛ فَأَمَّا الْعِقَابُ عِنْدَ التَّرْكِ فَلَا يُؤْخَذُ من نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ الِاقْتِضَاءُ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ بِالْخَبَرِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ تَفْعَلُ كَذَا عَذَّبْتُكَ بِكَذَا، كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِيرُ لِلْجِهَادِ، وَالْخُرُوجُ إلَى الْكُفَّارِ لِمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَوْعِ الْعَذَابِ:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ عَنْهُمْ. فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ من أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَّا فَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ الَّذِي فِي الدُّنْيَا بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ، وَبِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ اسْتِبْدَالُ غَيْرِكُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ...} الآية.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة، رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي، وهي ثلاثة أنواع:

الأول: قوله تعالى: {يعذبكم عذابا أليما}. واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا، وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم فتثاقلوا، فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن: الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به. وقيل إنه تهديد بكل الأقسام، وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة.

الثاني: قوله: {ويستبدل قوما غيركم} والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه، فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم، وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم، وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم، وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم، ونظيره قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه} ثم اختلف المفسرون فقال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. وقال أبو روق: هم أهل اليمن، وهذه الوجوه ليست تفسيرا للآية، لأن الآية ليس فيها إشعار بها، بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها. قال الأصم: معناه أن يخرجه من بين أظهركم، وهي المدينة.

قال القاضي: هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها، فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقواما يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضا حال كونه هناك.

والثالث: قوله: {ولا تضروه شيئا} والكناية في قول الحسن: راجعة إلى الله تعالى، أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين، وفي قول الباقين يعود إلى الرسول، أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس، ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه. ثم قال: {والله على كل شيء قدير} وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإذا توعد بالعقاب فعل.

المسألة الثانية: قال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} قال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.

... واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة. المسألة الثالثة: قال القاضي: هذه الآية دالة على وجوب الجهاد، سواء كان مع الرسول أو مع غيره، لأنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا} ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول. فإن قالوا: يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى: {ويستبدل قوما غيركم} ولقوله: {ولا تضروه شيئا} إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول. قلنا: خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، توعدهم بقوله: {إلا تنفروا} أي في سبيله {يعذبكم} أي على ذلك {عذاباً أليماً} أي في الدارين {ويستبدل} أي يوجد بدلاً منكم {قوماً غيركم} أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه. ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم، فقال: {ولا تضروه} أي الله ورسوله {شيئاً} لأنه متم أمره ومنجز وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره، كان التقدير: لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله: {والله} أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء قدير}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} «إلا» مركبة من«أن» الشرطية و«لا» النافية للحال والاستقبال كإن لم للماضي. أي إلا تنفروا كما أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم يعذبكم الله عذابا أليما في الدنيا -يهلككم به بعصيانكم بعد قيام الحجة عليكم- ويستبدل بكم قوما غيركم. قيل كأهل اليمن وأبناء فارس، وليس في محله، فإن الكلام للتهديد، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه، وإنما المراد قوم يطيعونه ويطيعون رسوله لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله، فإن لم يكن ذلك بأيديكم، فلا بد أن يكون بأيدي غيركم {ولن يخلف الله وعده} [الحج: 47]، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله} [المائدة:54]. وقد مضت سنته تعالى بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام والقائد العام، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه العزيز القدير بنصر من نصره، وهلاك من عصاه وخذله؟ {ولا تضروه شيئا} أي ولا تضروه تعالى شيئا ما من الضرر في تثاقلكم عن طاعته ونصرة رسوله؛ لأنه غني عنكم، ولن يبلغ أحد ضره ولا نفعه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل من في السموات والأرض مسخر بأمره، وإن كان قد جعل للبشر شيئا من الاختيار، هو حجة عليهم فيما يلقون من الجزاء على الأعمال، وقيل: إن المراد ولا تضروا رسوله بتثاقلكم، فإنه عصمه من الناس، وكفل له النصر بقرينة الآية الآتية: {والله على كل شيء قدير} ومنه إهلاككم إن أصررتم على العصيان، وتوليتم عن إقامة دينه وإتمام نوره، ونصر رسوله بقوم آخرين {يجاهدون في سبيل الله} [المائدة: 54] بأموالهم وأنفسهم {ولا يخافون لومة لائم} [المائدة:54] كما قال في آخر سورة القتال: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم* ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد:38]، وهذا حجة على من زعم من الروافض أنه لولا ثبات علي كرم الله وجهه والنفر الذي كانوا حول بغلة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب دينه فلم تقم له قائمة، والله أكبر من جهلهم، ورسوله أعظم عنده ممن ثبت وممن لم يثبت حول بغلته، ووعده أصدق من غلوهم في رفضهم، وهاك من حجج كتابه ما يزيد شبهة بدعتهم افتضاحاً، وحجة السنة وأهلها اتضاحاً: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)}...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار الشديدة، فإن المتخلف، قد عصى اللّه تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين اللّه، ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده اللّه بالوعيد الشديد، فقال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ثم لا يكونوا أمثالكم {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر اللّه، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، واللّه على كل شيء قدير).. والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.. (ويستبدل قوماً غيركم).. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء اللّه: (ولا تضروه شيئاً).. ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب! (واللّه على كل شيء قدير).. لا يعجزه أن يذهب بكم، ويستبدل قوماً غيركم، ويغفلكم من التقدير والحساب! إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة: وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق، لأنّ اللوم وقع على تثاقل حصل، ولمّا كان التثاقل مفضياً إلى التخلّف عن القتال، صرّح بالوعيد والتهديد أن يعودوا لمثل ذلك التثاقل، فهو متعلّق بالمستقبل كما هو مقتضَى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيداً فقد اقتضى أنّ خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجب على أعيَانهم كلّهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض، أي تعيّن الوجوب عليهم، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام، وأن يكون بسبب كثرة العدوّ الذي استُنفروا لقتاله، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأنّ جيش العدوّ مثلَيْ عدد جيش المسلمين. وعن ابن عباس أنّ هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية. وهذا بناء على أنّ المراد بالعذاب الأليم في قوله: {يعذبكم عذاباً أليماً} هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفِه بالأليم، وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله: {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52] فلا يكون في الآية حجّة على كون ذلك الجهاد واجباً على الأعيان، ولكنّ الله توعّدهم، إن لم يمتثلوا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا، فيكون الكلام تهديداً لا وعيداً. وقد يرجح هذا الوجه بأنّه قرن بعواقب دنيوية في قوله: {ويستبدل قوماً غيركم}. والعقوبات الدنيوية مصائب تترتّب على إهمال أسباب النجاح وبخاصّة ترك الانتصاح بنصائح الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أصابهم يوم أُحد، فالمقصود تهديدهم بأنّهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدوّ في ديارهم فاستأصلوهم وأتى الله بقوم غيرهم. والأليم المؤلم، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [لقمان: 2]، وقول عمرو بن معد يكرب: أمِنْ ريْحانَةَ الداعي السَّميع أي المُسمع. وكتب في المصاحف {إلا} من قوله: {إلا تنفروا} بهمزة بعدها لامْ ألف على كيفية النطق بها مدغمة، والقياسُ أن يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف. والضمير المسْتتر في {يعذبكم} عائد إلى الله لتقدّمه في قوله: {في سبيل الله} [التوبة: 38]. وتنكير {قوماً} للنوعية إذ لا تعيّن لهؤلاء القوم ضرورةَ أنّه معلَّقٌ على شرط عدم النفير وهم قد نَفَروا لمّا استُنفروا إلاّ عدداً غيرَ كثير وهم المخلّفون. و {يستبدل} يبدل، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضاً كقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] أي ويستبدل بكم غيركم. والضمير في {تضروه} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يعذبكم} والواو للحال: أي يعذّبكم ويستبدل قوماً غيركم في حال أن لا تضرّوا الله شيئاً بقُعودكم، أي يصبكم الضرّ ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضرّ، فصار الكلام في قوة الحصر، كأنّه قيل: إلاّ تنفروا لا تضرّوا إلاّ أنفسكم. وجملة {والله على كل شيء قدير} تذييل للكلام لأنّه يحقّق مضمونَ لحاق الضرّ بهم لأنّه قدير عليهم في جملة كلّ شيء، وعدم لحاق الضرّ به لأنّه قدير على كلّ شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضرّ...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا إنذار من الله لكل الذين يتركون الجهاد، ولا ينفرون في سبيل الله، فقد أنذر في هذه الآية بالعذاب والسخط والهلاك، وأنه لا ضرر على الله ورسوله. {إِلاَّ تَنفِرُواْ} أي في سبيل الله والجهاد، هي (إن) الشرطية المدغمة في (لا)، وجوب الشرط {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ذكر العذاب منكرا، مطلقا، والتنكير لتعظيم هذا العذاب، وأنه شديد التثاقل عن الجهاد عن وجود موجبه ودعوة الإمام الحق إليه، وإطلاقه يفيد تعدده وكثرته، فهو يشمل الغزو من الأعداء، والذلة، والمهانة والصغار، هذا في الدنيا، أما في يوم القيامة فنار جحيم وغضب الله، وسخطه، وبعده عنه. وذكر مع العذاب الأليم الهلاك، فقال تعالى: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أنه يكون عند هلاككم، وحيث تهلكون مصحوبين بالخزي والهزيمة والعار ويجيء قوم يكونون أشد بأسا وأعرف بحق الله تعالى منكم. وأرضى له، ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، أي شيء من الضلال قليلا كان أو كثيرا، والضمير يعود – في ظاهر السياق (على الله سبحانه وتعالى) وعنى على ذلك – أن الله تعالى غني عن العباد، وهم الفقراء إليه، والآية تشير إلى أنه لا يضرون إلا أنفسهم، فالعاقبة تعود إليهم، فهم الذين تنزل بهم الذلة، وتركبهم المهانة، وتلحقهم الهزيمة. ويجوز أن يعود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو حاضر في الأذهان دائما وهو الذي دعاهم إلى أن ينصرهم بأمر ربهم ويكون المعنى لا تضروا الرسول بتخاذلكم، وتثاقلكم شيئا، فإن الله تعالى ناصره، فإن لم يكن بكم فبغيركم {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو قادر على أن ينصره بغيركم، ولكن بعد فنائهم وضرب الذلة عليكم. وإن الإنذار الذي اشتملت عليه هذه الآية عام خالد، يشمل العصور كلها، فمن يوم أن اثاقلت الأمة الإسلامية عن الجهاد، وتركته، ضربت عليها الذلة، وتفرق المسلمون، فصار بأسهم بينهم شديد، وتوزعتهم الأمم، ونزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

أي: إن لم تذهبوا إلى القتال فإن الله ينذركم بالعذاب. وإذا أنذر الحق فلا بد أن يتحقق ما أنذر به، فأنتم إن لم تنفروا مخافة العذاب المظنون، وهو الإرهاق والتعب، فما بالكم بالعذاب المحقق إن لم تنفذوا أمر الله بالنَّفْرة إلى القتال؟ وإذا كانت المقارنة بين مشقة السفر والقتال والحر الشديد، وبين عذاب الله، فالمؤمن سوف يختار – بلا شك – مشقة الحرب مهما كانت؛ لأن كل فعل إنما يكون بقياس فاعله، فمظنة العذاب بالحر، أو مشقة السفر، وقسوة القتال لا يمكن قياسها بعذاب الله، لأن العذاب الذي ينتظر مَنْ يتباطأ أو يفرُّ من الزحف أكبر من مشقة الاستجابة للزحف مهما كانت مرهقة. ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} إذن: فلا تظنوا أنكم بتباطئكم؛ وعدم رغبتكم في القتال ستضرون الله شيئا؛ لأن الله قادر على أن يأتي بخلق جديد، وهو على ذلك قدير، لذلك يقول: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} (محمد)، فلا تظنوا أنكم بما معكم من ثراء أو قوة قادرون على عرقلة منهج الله بالبخل أو التخاذل؛ لأنه سبحانه قادر على أن يستبدلكم بقوم غيركم، يملكون حمية القتال والتضحية في سبيل الله؛ لأنه القادر فوق كل الخلق. وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو حيثية للأحكام التي سبقتها من قوله: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} وإن ظن واحد منهم أن هذا كلام نظري، فالحق سبحانه يضرب لهم المثل العلمي من الواقع الذي شاهدوه وعاصروه حينما اجتمع كفار قريش ليقتلوه فنصره الله عليهم، فقال له جل جلاله: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

التهديد بالعذاب على عدم النفور:

{إِلاَّ تَنفِرُواْ} وتستجيبوا لله في ما يأمركم به من الجهاد، فتقعدوا في بيوتكم في حالة كسل وخوف واسترخاء {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} جزاءً لتمردكم على الله قبل ذلك، فإن الله لا يعذّب قوماً حتى يقيم عليهم الحجة {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} لا يتثاقلون عند الدعوة إلى الجهاد، لأنهم يتحركون في الحياة من مواقع القاعدة الإيمانية التي تحكم كل تصوراتهم وأعمالهم وعلاقاتهم على أساسٍ من وعي المسؤولية أمام الله، في ما يعيشون من محبة الله وخوفه، وبذلك فهم يجدون الحياة، في مفهومهم لموقعها الحقيقي من شخصيتهم، هبة الله التي يملك أمر استمرارها، كما يملك أمر إزالتها من أجل غايات الحياة التي أراد الله لها أن تعيش من أجلها، فليس لهم أن يمتنعوا عما يريده لهم من ذلك كله، لأن الأمر كله بيده، وهذا ما ينبغي لكم أن تعيشوه وتواجهوه وتنتظروه، فلا تعتبروا المسألة مقتصرة عليكم، فلستم أوّل الناس الذين يدعوهم الرسول إلى الجهاد، ولستم آخرهم، بل أنتم مجرد مرحلةٍ طارئةٍ من مراحل المسيرة الإسلامية الطويلة، التي قد تتأثّر بعض الشيء بالمواقف السلبيّة التي يقفها السائرون في الطريق، ولكن ذلك لا يلغيها ولا يجمّدها. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} لأنّ لله عباداً صالحين مجاهدين يعملون من أجل حمل المسؤولية ومتابعتها بكل صدقٍ وعزيمةٍ وإصرارٍ، ولا بدّ لهم من أن يتحركوا في الخط الطويل ويسيروا على طبيعة المنهج {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لأن الأشياء كلها ملكه وفي قبضته، فلا مجال إلاّ له في كل شيء ومع كل شيء وأمام كل شيء، بالمعنى الذي يجعل العقول والعيون والمشاعر محدّقةً بجلاله في عملية وعيٍ متحرك، وذلك هو سر إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور في ما يريد الله سبحانه أن يخرجهم منه، إلى إشراقة النور في الحياة، من خلال رسالاته التي أراد لرسله أن يعرّفوها للناس، ويؤكدوها في دعوتهم التي تنطلق في أجواء الرسالات، ويحركوها في وعي الناس، لتثير فيهم الشعور الواعي بقدرة الله المطلقة التي تحميهم من الانسحاق أمام نقاط ضعفهم في مواجهة قوّة الآخرين، ليجدوا في ارتباطهم بالله القوّة كلها، في الزمن كله...