أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} (102)

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت ، فقال رجل : أين أبي فقال في النار ، وقال آخر من أبي فقال : حذافة وكان يدعى لغيره ) فنزلت .

{ قد سألها قوم } في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار . { من قبلكم } متعلق بسألها وليس صفة لقوم ، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها . { ثم أصبحوا بها كافرين } أي بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} (102)

وقرأ عامة الناس «قد سَألها » بفتح السين ، وقرأ إبراهيم النخعي «قد سِألها » بكسر السين ، والمراد بهذه القراءة الإمالة ، وذلك على لغة من قالت ِسلت تسأل ، وحكي عن العرب هما يتساولان ، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة{[4751]} فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت ، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها ، قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة . قال السدي : كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً .

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتجه في قريش مثالاً سؤالهم آية ، فلما شق لهم القمر كفروا ، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي ؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه ؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو ؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديماً طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف لما كلفت .


[4751]:- عبارة "البحر المحيط" في هذه النقطة هي: "وقرأ إبراهيم النخعي بكسر السين من غير همز، يعني بكسر الإمالة، وجعل الفعل من مادة (سين وواو ولام) لا من مادة (سين وهمزة ولام)، وهما لغتان ذكرهما سيبويه، ومن كلام العرب: هما يتساولان بالواو، وإمالة النخعي (سال) مثل إمالة حمزة (خاف)." وهي أوضح من عبارة ابن عطية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} (102)

قوله : { قد سألها قوم من قبلكم ثُم أصبحوا بها كافرين } استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن ، أن يقول سائل : إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قوماً ، فهل الأوْلى ترك السؤال أو إلقاؤه . فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سبباً في كفر قومٍ قبل المسلمين .

وضمير { سألها } جُوّز أن يكون عائداً إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل { تسألوا } ، أي سأل المسألة ، فيكون الضمير منصوباً على المفعولية المطلقة . وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف ، أي سأل أمثالها . والمماثلة في ضآلة الجدوى . والأحسن عندي أن يكون ضمير { سألها } عائداً إلى { أشياء } ، أي إلى لفظه دون مدلوله . فالتقدير : قد سأل أشياء قومٌ من قبلكم ، وعدّي فعل { سأل } إلى الضمير على حذف حرف الجرّ ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام ، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله ، نحو قولك : لك درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه . والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر .

و { ثم } في قوله : { ثم أصبحوا بها كافرين } للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها ، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يُترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم . وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } في سورة البقرة ( 85 ) .

والباء في قوله { بها } يجوز أن تكون للسببية ، فتتعلّق بِ { أصبحوا } ، أي كانت تلك المسائل سبباً في كفرهم ، أي باعتبار ما حصل من جوابها ، ويحتمل أن تكون « للتعدية » فتتعلّق ب { كافرين } ، أي كفروا بها ، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به ، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص ، أي ما كفروا إلاّ بسببها ، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل ، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه ، فهو تخصيص ادّعائي ، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها .

وفعل { أصبحوا } مستعمل بمعنى صاروا ، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال .

والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام ، سألوا مثل هذه المسائل ، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا ، مثل ثمود ، سألوا صالحاً آية ، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها ، وهذا شأن أهل الضلالة متابعةُ الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به ، كما قال الله تعالى : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] ، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سَلام . وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى : { قل من كان عدوّاً لجبريل } في سورة البقرة ( 97 ) . فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم ، وتعطيل بيت القدس ، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال . وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى ، وكانا مقدّسين عند اليهود ، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس .

والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سبباً في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يَكره ممّن يُحبّه . ولولا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قومٌ من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر .

فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها ، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها .