الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} (102)

قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا } : الضميرُ في " سألها " ظاهرُه يعود على " أشياء " لكن قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف قال : لا تَسْالوا عن أشياء ، ثم قال : " قد سَألَها " ولم يقل سَألَ عنها ؟ قلت : [ الضميرُ في سألها ] ليس يعودُ على أشياءَ حتى يَتَعدَّى إليها ب " عن " ، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله : " لا تَسْألوا " أي : قد سأل المسألةَ قومٌ ، ثم أصبحوا بها - أي بمرجوعِها - كافرين " ونحا ابن عطية مَنْحاه . قال الشيخ : " ولا يتجه قولُهما إلى حذف مضاف ، وقد صَرَّح به بعضُ المفسرين ، أي : قال سأل أمثالَها أي : أمثالَ هذه المسألة أو أمثالَ هذه السؤالات " . وقال الحوفي في " سألها " : " الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على " أشياء " ولا يتجه حَمْلُه على ظاهرِه لا مِنْ جهة اللفظ العربي ولا من جهةِ المعنى ، أمَّا من جهة اللفظ فلأنه كان ينبغي أن يُعْدَّى ب " عن " كما عُدِّي في الأول ، وأمَّا من جهةِ المعنى فلأن المسؤولَ عنه مختلِفٌ قطعاً ، فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ مَنْ قبلهم ، فإنَّ سؤالَ هؤلاء مثلُ مَنْ سأل : أين ناقتي وما بطن ناقتي ، وأين أبي وأين مَدْخَلي ؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا نحو : { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً } [ المائدة : 114 ] { أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] { اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً } [ الأعراف : 138 ] ونحوه . وقال الواحدي : - ناقلاً عن الجرجاني - " وهذا السؤالُ في الايات يخالِفُ معنى السؤال في قوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّي بالجار ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجار ، لأن السؤالَ ها هنا طَلَبٌ لعينِ الشيء نحو : " سَأَلْتُك درهماً " أي طلبته منك ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيتِه ، وإنما عَطَفَ بقوله { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } على ما قبلَها وليست بمثلِها في التأويل ، لأنه إنما نَهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفوا ، وهو مرفوعٌ عنهم " قلت : ويجوز أن يعودَ على " أشياء " لفظاً لا معنىً كما قال النحويون في مسألة : " عندي درهمٌ ونصفُه " أي : ونصفُ درهمٍ آخرَ ، ومنه :

وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ *** ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ

قوله : { مِّن قَبْلِكُم } متعلق بقوله : { سَأَلَهَا } فإنْ قيل : هل يجوزُ أن يكونَ صفةً لقوم ؟ قلت : منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظرف الزمان لا يقعُ خبراً ولا صفةً ولا حالاً عن الجثة ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ البقرة عند قوله : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ الآية : 21 ] ، فإنَّ الصلةَ كالصفة ، و " بها " متعلق ب " كافرين " وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ . والنخعي قرأ : " سالها " بالامالة من غير همزٍ وهما لغتان ، ومنه يَتَساولان فإمالتُه ل " سأل " كإمالة حمزة " خاف " وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ الآية : 61 ] و { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الآية : 211 ] .