[ 102 ] { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( 102 ) } .
{ قد سألها قوم من قبلكم } أي : سألوا هذه المسألة ، لكن لا عينها ، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال . وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير { ثم أصبحوا بها كافرين } أي : بسببها . حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، ويفعلوه . وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا . والمعنى : احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له .
الأول : روى البخاري{[3235]} في سبب نزولها في ( التفسير ) عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال : " كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء . فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل ، تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا . . . } حتى فرغ من الآية كلها " .
وأخرج{[3236]} أيضا عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم / خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا . . . قال : فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ، لهم خنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان ، فنزلت هذه الآية : { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } .
وروى البخاري{[3237]} أيضا في كتاب ( الفتن ) عن قتادة : أن أنسا حدثهم قال : " سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة . فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر فقال : لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم . فجعلت أنظر يمينا وشمالا ، فإذا كل رجل ، رأسه في ثوبه يبكي . فأنشأ رجل- كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه- فقال : يا نبي الله ! من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة . ثم أنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . نعوذ بالله من سوء الفتن .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط . إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " .
فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } .
وفي رواية : قال قتادة يذكر- بالبناء للمجهول- هذا الحديث . . . الخ .
وروى البخاري{[3238]} أيضا في كتاب ( الاعتصام بالكتاب والسنة ) في باب ما يكره من كثرة السؤال ، عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر . فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة . وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسال عنه ، / فوالله ! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا . قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء ، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : سلوني . فقال أنس : فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي ؟ يا رسول الله ! قال : النار . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي ؟ يا رسول الله ! قال : أبوك حذافة . قال : ثم أكثر أن يقول سلوني .
فبرك عمر على ركبتيه فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا .
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ! لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي . فلم أر كاليوم في الخير والشر " .
وعند مسلم{[3239]} : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة قال : " قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعت بابن قط أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية ، فتفضحها على أعين الناس .
قال عبد الله بن حذافة : والله ! لو ألحقني بعبد أسود للحقته " .
وروى ابن جرير{[3240]} عن السدي قال : " غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فقام خطيبا فقال : سلوني . – نحو ما تقدم- وزاد : فقام إليه عمر فقبل رجله وقال : رضينا بالله ربا . . . " الخ .
وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال{[3241]} : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى / جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا : قال : في النار- - نحو ما مر – وفيه : فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا . . . } الآية " .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وبهذه الزيادة- أي على ما في البخاري من قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " أين أنا ؟ قال : في النار " . – يتضح أن هذه القصة سبب نزول : { لا تسألوا عن أشياء . . . } الآية ، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة ، بخلافها في حق حذافة فإنها بطريق الجواز ، أي : لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه ، فبين أباه الحقيقي ، لافتضحت أمه ، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال . انتهى .
وروى الإمام أحمد{[3242]} والترمذي{[3243]} عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال : " لما نزلت هذه الآية : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قالوا : يا رسول الله ! أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال ثم قالوا : أفي كل عام ؟ . فقال : لا . ولو قلت نعم لوجبت . ولو وجبت لما استطعتم . فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا . . . } الآية " .
قال الترمذي : غريب . وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليا .
وروى ابن جرير نحوه عن أبي هريرة{[3244]} وأبي أمامة{[3245]} ، وكذا عن ابن عباس{[3246]} ، / قال في الآية : " لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا . فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه " 1 ه .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل . إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان ، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة .
الثاني : قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته . فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد{[3247]} عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا . فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " . ورواه أبو داود{[3248]} والترمذي{[3249]} .
الثالث : قال الإمام ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) :
لم ينقطع حكم هذه الآية . بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه . بل يستعفي ما أمكنه ، ويأخذ بعفو الله . ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " يا صاحب الميزاب ! لا تخبرنا . لما سأله رفيقه عن مائه : أطاهر أم لا " ؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره . فلعله يسوءه إن أبدي له . فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله . فإنه سبحانه يكره إبداءها ، ولذلك سكت عنها . 1 ه .
/ وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها . وأما المقصود أولا وبالذات- كما يفيده تتمتها- فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي .
ويدل له ، ما رواه البخاري{[3250]} عن سعد بن أبي وقاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أعظم المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " .
وعن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذروني ما تركتكم . فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " رواه الإمام أحمد{[3251]} ومسلم والنسائي .
وعن أبي ثعلبة الخشني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها . وحد حدودا فلا تعتدوها . وحرم أشياء فلا تقربوها . وترك أشياء ، من غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها . . . " رواه الدارقطني وأبو نعيم .
وعن سلمان الفارسي{[3252]} قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال : / الحلال ما أحل الله في كتابه . والحرام ما حرم الله في كتابه . وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه ، فلا تتكلفوا " . رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة .
وأخرج الشيخان{[3253]} عن أنس قال : " كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء . وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع " .
وفي قصة{[3254]} اللعان من حديث ابن عمر : " فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها " .
/ ولمسلم{[3255]} عن النواس بن سمعان قال : " أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة . كان أحدنا ، إذا هاجر ، لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم " .
ومراده : أنه قدم وافدا ، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة ، فيصير مهاجرا ، فيمتنع عليه السؤال .
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب ، وفودا كانوا أو غيرهم .
وأخرج أحمد{[3256]} عن أبي أمامة قال : " لما نزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تسالوا عن أشياء . . . } الآية ، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم . فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء وقلنا : سل النبي صلى الله عليه وسلم " .
ولأبي يعلى عن البراء : " إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب . وإن كنا لنتمنى الأعراب- أي قدومهم- ليسألوا ، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب ، فيستفيدوها " .
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة ، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، / ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه ، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة : كالسؤال عن الذبح بالقصب . والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة . والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملامح والفتن . والأسئلة التي في القرآن : كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك . . .
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق ، من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا لتكليف بما يشق ، فحقها أن تجتنب .
وقد عقد الإمام الدارمي{[3257]} في أوائل ( مسنده ) لذلك بابا . وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك ، منها :
عن ابن عمر : " لا تسألوا عما لم يكن . فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن " .
وعن عمر : " لا تسألوا عما لم يكن . فإن لنا فيما كان شغلا " .
وعن زيد بن ثابت : " أنه كان سئل عن الشيء ؟ يقول : كان هذا ؟ فإن قيل : لا ! قال : دعوه حتى يكن " .
وعن أبي بن كعب ، وعن عمار ونحو ذلك .
وأخرج أبو داود في ( المراسيل ) : عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعا : " لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها . فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد- أو وفق- وإن عجلتم تشتت بكم السبل " .
وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا : " لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد ، حتى يتساءلوا عما لم ينزل " .
قال بعض الأئمة : والتحقيق في ذلك ؛ أن البحث عما لا يوجد فيه نص ، على قسمين :
/ ( أحدهما ) أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها ؛ فهذا مطلوب لا مكروه . بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين . ( ثانيهما ) - أن يدقق النظر في وجوه الفروق ، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا . فهذا الذي ذمه السلف . وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه : " هلك المتنطعون " . . . أخرجه مسلم{[3258]} ، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته .
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جدا ، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه . وأشد من ذلك- في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها . ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحس . كالسؤال- عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة . . . إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف . والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان به من غير بحث . وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة . قال بعضهم : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن- أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق : هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا ؟ فيجيبه بالجواز . فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، فيحتاج أن يجيبه بالمنع . ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى . ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز . وإذا تقرر ذلك ، فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ؛ ومن توسع في تفريع / المسائل وتوليدها- ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولاسيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كرهه السلف . ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل . وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه وكذلك ، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به . وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم . – كذا في ( فتح الباري ) - .
ثم رأيت في ( موافقات ) الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى ، في أواخرها- في هذا الموضوع- مبحثا جليلا ، قال في أوله :
الإكثار من الأسئلة مذموم . والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح . من ذلك قوله تعالى . . . - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضا عما نقلنا- ثم قال : . . . والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية ، مذموم . وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه . وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم . . ثم قال : ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :
( أحدها ) : السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة{[3259]} : " من أبي ؟ " وروي في ( التفسير ) أنه عليه السلام سئل : " ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم لا يزال ينمو / حتى يصير بدرا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : { يسألونك عن الأهلة . . . }{[3260]} الآية " ، فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين .
و ( ثانيها ) : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كما سأل الرجل عن الحج{[3261]} : " أكل عام ؟ " مع أن قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت }{[3262]} قاض بظاهره أنه للأبد ، لإطلاقه . ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة . . . } {[3263]} .
و ( ثالثها ) : السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا- خاص / بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : " ذروني ما تركتكم " {[3264]} . وقوله : " وسكت عن أشياء رحمة بكم ، لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها " .
و ( رابعها ) : أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها ، كما جاء في النهي{[3265]} عن الأغلوطات .
و ( خامسها ) : أن يسأل عن علة الحكم- وهو من قبيل التعبدات ، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال- كما في حديث{[3266]} قضاء الصوم دون الصلاة .
و ( سادسها ) : أن يبلغ بالسؤال على حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : { قل ما أسلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }{[3267]} ولما سئل الرجل{[3268]} :/ " يا صاحب الحوض هل ترد حوضك سباع ؟ قال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض لا تخبرنا . فإنا نرد على السباع وترد علينا " .
و ( سابعها ) : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : " أعراقي أنت ؟ " وقيل لمالك بن أنس : " الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها ؟ قال : لا . ولكن يخبر بالسنة . فإن قبلت منه ، وإلا سكت " .
و ( ثامنها ) : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى{[3269]} : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه . . . } الآية . وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات أسرع التنقل . ومن ذلك سؤال من سأل مالكا{[3270]} عن الاستواء ؟ فقال : " الاستواء معلوم ، والكيفية مجهول ، والسؤال عنه بدعة " .
/ و ( تاسعها ) : السؤال عما شجر بين السلف الصالح . وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين ؟ فقال : " تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطخ بها لساني " .
و ( عاشرها ) : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام . وفي القرآن في ذم نحو هذا{[3271]} : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألذ الخصام . . . } وقال{[3272]} : { بل هم قوم خصمون } ، وفي الحديث{[3273]} : " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .
هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها / واحدا ، بل فيها ما تشتد كراهيته ، ومنها ما يخف ، ومنها ما يحرم ، ومنها يكون محل اجتهاد . وعلى جملة ، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء : " إن المراء في القرآن كفر " . وقال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم . . . } {[3274]} الآية . وأشباه ذلك من الآي والأحاديث . . . فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه ، والجواب بحسبه . انتهى كلامه .
قال بعض المفسرين : لابد من تقييد النهي في هذه الآية ( بما لا تدعو إليه حاجة ) . لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }{[3275]} . وقال صلى الله عليه وسلم{[3276]} : " قاتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال " . . . انتهى .
/ ولا يخفى أن الآية بقيدها- أعني { إن تبد . . . } إلخ- غنية عن أن تقيد بقيد آخر كما ذكره البعض . لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به- كما أسلفنا- مما هو خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه . وفيه خطر المفسدة . والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة ، يجب على العاقل الاحتراز عنه .
وأما ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية – كما يتضح من نظمها الكريم- مع ما بينته السنة في سبب النزول ، وتحرج الصحابة عن المسائل المار بيانه- معلوم أنه فيما لا ضرورة إليها وإلا فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كثرة المسائل ، خشية أن تفضي إل حرج أو مساءة أو تعنت .
روى الشيخان{[3277]} عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .
/ وروى أحمد وأبو داود : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات " - وهي صعاب المسائل- والآثار في ذلك كثيرة .