{ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } فألقاها فصارت حية . { فإذا هي تلقف ما يأفكون } أي ما يزورونه من الإفك ، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه ، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول . روي : أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا . وقرأ حفص عن عاصم { تلقف } ها هنا وفي " طه " و " الشعراء " .
{ أن } في موضع نصب ب { أوحينا } أي بأن ألق ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وروي أن موسى لما كان يوم الجمع خرج متكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صف له السحرة في عدد عظيم حسبما ذكر ، فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه ، فألقى فإذا هي ثعبان مبين ، فعظم حتى كان كالجبل ، وقيل إنه طال حتى جاز النيل ، وقيل كان الجمع بالإسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وقيل كان الجمع بمصر وإنه طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من الصواب مفرط الإغراق لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وروي أن السحرة لما ألقوا وألقى موسى عصاه جعلوا يرقون وجعلت حبالهم وعصيهم تعظم وجعلت عصى موسى تعظم حتى سدت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد ذلك عصا فعندها آمن السحرة ، وروي أن عصا موسى كانت عصا آدم عليهما السلام وكانت من الجنة ، وقيل كانت من العين الذي في وسط ورق الريحان ، وقيل كانت غصناً من الخبيز أو قيل كانت لها شعبتان وقيل كانت عصا الأنبياء مختزنة عند شعيب فلما استرعى موسى قال له اذهب فخذ عصا فذهب إلى البيت فطارت هذه إلى يده فأمره شعيب بردها وأخذ غيرها ففعل فطارت هي إلى يده فأخبر بذلك شعيباً وتركها له ، وقال ابن عباس : إن ملكاً من الملائكة دفع العصا إلى موسى في طريق مدين ، و { تلقف } معناه تبتلع وتزدرد ، و { ما يأفكون } معناه : ما صوروا فيه إفكهم وكذبهم ، وقرأ جمهور الناس «تلقف » ، وقرأ عاصم في رواية حفص «تلْقَف » بسكون اللام وفتح القاف ، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه «هي تلقف » بتشديد التاء على إدغام التاء من تتلقف ، وهذه القراءة لا تترتب إلا في الوصول ، وأما في الابتداء في الفعل فلا يمكن ، وقرأ سعيد بن جيبر «تلقم » بالميم أي تبتلع كاللقمة ، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصي أكلاً وأعدمها الله عز وجل ، ومد موسى يده إلى فمه فعاد عصا كما كان ، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجداً مؤمنين بالله ورسوله .
جملة : { وأوحينا } معطوفة على جمل { سحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } [ الأعراف : 116 ] ، فهي في حيز جواب لمّا ، أي : لمّا ألْقَوا سَحَروا ، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك .
و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل .
والتلقف : مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد .
و { ما } موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه . والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً ، والكذب المصنوعُ إفكاً ، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب .
وقرأ الجمهور { تَلَقّفَ } بقاف مشددة ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت ، وقرأ حفص عن عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد .
والتعبير بصيغة المضارع في قوله : { تَلقف } و { يأفكون } للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم . وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.