نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا} (48)

ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام ، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة ، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك ، دالاًّ على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة ، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني ، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله ، فقال : { وهو } أي وحده { الذي أرسل الرياح } فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس ، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صباً وأخرى دبوراً ، ومرة شمالاً وكرة جنوباً وغير ذلك { نشراً } أي تبعث بأرواحها السحاب ، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح { بين يدي رحمته } لعباده بالمطر .

ولما كان السحاب قريباً من الريح في اللطافة ، والماء قريباً منهما ومسبباً عما تحمله الريح من السحاب ، أتبعهما به ، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى ، غير الأسلوب مظهراً للعظمة فقال : { وأنزلنا من السماء } أي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه { ماء } ثم أبدل منه بياناً للنعمة به فقال : { طهوراً* } أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به ، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله . وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر .