نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ} (60)

ولما كان مع هذا البيان من الأمر الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشركين وتقرير المنكرين : من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلهاً ، ولا اثر له أصلاً ، عاد له بقوله : { أمَّن } وكان الأصل : أم هو ، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم ، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال : { خلق السماوات والأرض } تنبيهاً بالقدرة على بدء الخلق على القدرة على إعادته ، بل من باب الأولى ، دلالة على الإيمان بالآخرة تخلقاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم .

ولما كان الإنبات . من أدل الآيات ، على إحياء الأموات ، قال : { وأنزل } وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله : { لكم } أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره : { من السماء ماء } هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور . في وجوده وقدرته واختياره لفعل المتباينات في الطعم واللون والريح والطبع والشكل بماء واحد في أرض واحدة واختصاصه بفعل ذلك من غير مشاركة شيء له شيء منه أصلاً ، وهو آيته العظمى على أمر البعث ، عدل إلى التكلم وعلى وجه العظمة فقال : { فأنبتنا } أي بما لنا من العظمة { به حدائق } أي بساتين محدقة - أي محيطة - بها أشجارها وجدرانها ، والظاهر أن المراد كل ما كان هكذا ، فإنه في قوة أن يدار عليه الجدار وإن لم يكن له جدار ، وعن الفراء أن البستان إن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة .

ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف : { ذات بهجة } أي بهاء وحسن ورونق ، وبشر بها وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها ، وتباين طعومها وأشكالها ، ومقاديرها وألوانها .

ولما أثبت الإنبات له ، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله ، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال : { ما كان } أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه { لكم } وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات { أن تنبتوا شجرها } أي شجر تلك الحدائق .

ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية ، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله : { أإله } أي كائن { مع الله } أي الملك الأعلى الذي لا مثل له .

ولما كان الجواب عند كل عاقل : لا وعزته ! قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب : { بل هم } أي في دعائهم معه سبحانه شريكاً { قوم يعدلون* } أي عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره ، مع العلم بالحق ، فيعدلون بالله غيره .