نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخۡفَوۡنَ عَلَيۡنَآۗ أَفَمَن يُلۡقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيۡرٌ أَم مَّن يَأۡتِيٓ ءَامِنٗا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (40)

ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث ، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح ، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله : فقال في عبارة عامة له ولغيره ، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل من يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله : { إن الذين يلحدون * } أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغط وكل ما يشمله معنى الميل عما تصح إرادته .

ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة ، أعاد مظهرها فقال : { في آياتنا } على ما لها من العظمة الدالة على ما لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة : ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة : { لا يخفون علينا } أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه ، ونحن قادرون على أخذهم ، فمتى شئنا أخذنا ، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت .

ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار ، وكان التقدير : ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن كل مخوف ، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار ، سبب عنه قوله تعالى : { أفمن يلقى في النار } أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات ، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه { خير أم من يأتي } إلينا { آمناً يوم القيامة } حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً ، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً ، وسره أنه ذكر المقصود بالذات ، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً ، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً .

ولما كان هذا راداً ولا بد للعاقل عن سوء أعماله إلى الإحسان رجاء إنعام الله وإفضاله ، أنتج قوله مهدداً ومخوفاً ومتوعداً صارفاً القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أدل على الغضب على المتمادي بعد هذا البيان : { اعملوا ما شئتم } أي فقد علمتم مصير المسيء والمحسن ، فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعماله ، فإنه ملاقيه . ولما كان العامل لا يطمع في الإهمال إلى على تقدير خفاء الأعمال ، والمعمول له لا يترك الجزاء إلا لجهل أو عجز ، بين أنه سبحانه محيط العلم عالم بمثاقيل الذر فقال مرغباً مرهباً مؤكداً لأنهم يعملون عمل من يظن أن أعماله تخفى ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى ما هو أدل شيء على الفردانية ، لئلا يظن ان مزيد العلم بواسطة كثيرة : { إنه } وقدم أعمالهم تنبيهاً على الاهتمام بشأنها جداً فقال : { بما تعملون } أي في كل وقت { بصير * } بصراً وعلماً ، فهو على كل شيء منكم قدير .