نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا} (9)

ولما كان هذا دالاً على العفو ، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال : { وينقلب } أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول { إلى أهله } أي الذين أهله الله بهم في{[72361]} الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزله الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا . ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد ، بنى للمفعول قوله : { مسروراً * } أي-{[72362]} قد أوتي جنة وحريراً ، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله مغموماً{[72363]} مضروراً يحاسب نفسه بكرة وعشياً حساباً عسيراً مع ما هو فيه-{[72364]} من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين{[72365]} ، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة{[72366]} بالذات ، وفي الشق الآخر السبب والأصل ، وقد استشكلت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية بما " روي عنها في الصحيح{[72367]} بلفظين أحدهما " ليس أحد يحاسب إلا هلك " والثاني " من نوقش الحساب عذب " قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : يا رسول الله ! أليس الله يقول { فأما من أوتي كتابه } [ الانشقاق : 8 ] الآية ، فقال : صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك العرض " فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح ، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي " كل من حوسب هلك " والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي " بعض من يحاسب لا يهلك " وهو نقيض ، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة ، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقرير الإشكال فيه أن يقال : المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية ، وذلك في الحساب بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه ، فرجع الأمر أيضاً إلى كلية موجبة هي " كل من حوسب بجميع أعماله عذب " وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيراً أو{[72368]} لا ، لأن الأعم يشمل جميع أخصّياته ، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك ، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى :

{ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها }[ الكهف : 49 ] ومن حديث الحافظين وغير ذلك ، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك ، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت ، فأقرها صلى الله عليه وسلم على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي ، وهو ذكر الأعمال كلها -{[72369]} والمقابلة على كل منها ، وذلك هو معنى المناقشة ، فمعنى " من نوقش الحساب " من حوسب حساباً حقيقياً بذكر جميع أعماله والمقابلة على كل منها ، وأن المراد بالحساب في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة ، وذلك بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء ، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية : يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان{[72370]} ، وعلى ذلك دل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان{[72371]} عن ابن عمر رضي الله عنهما :

" إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له : أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره{[72372]} بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك ، قال الرب سبحانه : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " ولفظ " كنفه " يدل على ذلك فإن كنف الطائر جناحه ، وهو إذا وقع {[72373]}فرخه في{[72374]} كنفه عامله{[72375]} بغاية اللطف ، فالله تعالى أرحم وألطف


[72361]:من م، وفي الأصل و ظ: إلى.
[72362]:زيد من م.
[72363]:زيد في الأصل: مطرودا، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[72364]:زيد من ظ و م.
[72365]:زيد في الأصل و ظ: المخالطين، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[72366]:من ظ و م، وفي الأصل: المقصود.
[72367]:راجع 2/736.
[72368]:من ظ و م، وفي الأصل: أم.
[72369]:زيد من ظ و م.
[72370]:راجع البحر المحيط 8/446.
[72371]:راجع صحيح البخاري 1/330وصحيح مسلم 2/360.
[72372]:من ظ و م، وفي الأصل: يعرفه.
[72373]:من ظ و م، وفي الأصل: في خرفه.
[72374]:من ظ و م، وفي الأصل: في خرفه.
[72375]:زيد في الأصل و ظ: الله، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.