نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فِيهَا عَيۡنٞ جَارِيَةٞ} (12)

ولما وصف الجنة بأول ما يعتبر فيها وهو عدم المنغص ، أتبعه ما يطلب بعده وهو تناول المتلذذات ، وكان الأكل قد فهم من ذكر لفظ الجنة ، ذكر المشروب لذلك ولدلالته إذا كان جارياً على زيادة حسن الجنة وكثرة ما فيها من النباتات المقيتة والمفكهة من النجم والأشجار والري والأطيار ، فقال لأنه ليس كل جنة مما نعرفه فيه ماء جارٍ بنفسه : { فيها } أي الجنة . ولما كان الماء الجاري صالحاً لأن يقسم إلى أماكن كثيرة ، وحد قوله المراد به الجنس الشامل للكثير مقابلة لعين أهل النار في دار البوار : { عين جارية * } أي عظيمة الجري جداً ، فهي بحيث لا تنقطع أصلاً لما لأرضها من الزكاء والكرم وما لمائها من الغزارة وطيب العنصر ، فهو صالح لأن يعم جميع نواحيها أقاصيها وأدانيها وإن عظم اتساعها وتناءت أقطارها وبقاعها ، كما نراه يجري من ساق الشجرة الكبيرة جداً فيسقي جميع أغصانها وأوراقها وثمارها ، ويزيد على ذلك بأن جريه من أسفل إلى فوق ، يجدبه جادب الشوق ويسوقه أي سوق يقدره الخلاق العليم ، والذي قدر على هذا كما هو مشاهد لنا لا نشك فيه قادر على أن يجعل هذه العين - الصالحة للجنس ولو كانت واحدة بالشخص - عامة لجميع مرافق الجنة تجري إلى خيامها ورياضها وبساتينها ومصانعها ومجالسها ويصعدها إلى أعالي غرفها وإن علت ، مقسمة بحسب المصالح ، موزعة على قدر المنافع ، بغاية الإحكام بما كان لداخلها من الخضوع الذي يجري منهم الدموع ويقل الهجوع ويكثر الظمأ والجوع .