التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكهف

في السورة حملة شديدة على الكفار ، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي صلى الله عليه وسلم . وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه . وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح . وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير .

وآيات السورة متوازنة ، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت .

ويروى أن الآيات [ 28 و 83- 101 ] مدنيات ، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك .

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) {[1]} . وفي رواية ( من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجال ) . وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ){[2]} . وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص .

وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بد من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ . وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( 1 ) قيما 1 لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( 2 ) ماكثين فيه أبدا ( 3 ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) فلعلك باخع نفسك 2على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( 6 ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( 7 ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا3 ( 8 ) } [ 1-8 ] .

بدأت السورة بحمد الله ، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة .

واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته . ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا ، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم ، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة .

والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب . وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها ، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر .

والقسمان متصلان ببعضهما ، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني في تطمينه وتسليته . والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها .

وفحوى الآية [ 4 ] ثم الآية [ 5 ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى ، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك .

والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس هو إلا نذير ، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها .

ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم ، وأنهم راجعون إليه ، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني ، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول .

وينطوي في جملة { لِنبلوهم أيهم أحسن عملا 7 } تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب ، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها ، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم . وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى . منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة ، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة ، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة . وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.