التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِذَا بَلَغَ ٱلۡأَطۡفَٰلُ مِنكُمُ ٱلۡحُلُمَ فَلۡيَسۡتَـٔۡذِنُواْ كَمَا ٱسۡتَـٔۡذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (59)

جملة { فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم } هي : هنا بمعنى كما استأذن الذين بلغوا الحلم قبلهم .

وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة : حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر .

ثلاث عورات لكم : ثلاث أوقات هي لكم عورات . والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه . وهذا المعنى في جملة { إن بيوتنا عورة } في آية سورة الأحزاب ( 13 ) وأكثر ما تطلق على الشيء لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان ، وهي هنا بهذا المعنى .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 58 ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 59 ) } .

في الآيتين :

أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سن الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلا بعد الاستئذان والإذن . وهي وقت ما قبل الفجر ، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم وبعد صلاة العشاء وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها .

وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال .

وتعقيب على هذا التأديب : فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب ، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك .

تعليق على الآية

{ يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم . . . }الخ

والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام

والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة . ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما .

وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله فقال : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها{[1551]} .

والروايات محتملة الصحة ؛ لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مر في مناسبات كثيرة ، وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكى للنبي صلى الله عليه وسلم منه واحتوى تتمة له .

ولقد أباحت الآية ( 31 ) من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة وللعبيد . فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان فكانت المراجعة ، فنزلت الآيات للاستدراك . وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا . وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم .

والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا . وإن كلمة { منكم } الواردة بعد جملة { لم يبلغوا الحلم } في الآية الأولى وبعد كلمة { الأطفال } في الآية الثانية هما أسلوبيتان ؛ لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط . فإذا كان هؤلاء يطلب منه الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى .

وجملة { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم } متساوقة مع الآية ( 27 ) من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل . وجملة { الذين من قبلهم } تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم ، وهم الذين أوجبت الآية ( 27 ) عليهم الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا .

وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } وجملة { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } تعنيان ذكور الأطفال غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنها تشملان ذكور الأطفال وإناثهم فتعبير بلوغ الحلم يصح أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى ، وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية ( 27 ) التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته .

والمتبادر أن جملة { الذين ملكت أيمانكم } تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا . والمرأة الحرة محرمة على مملوكها ؛ ولذلك سمح لها في الآية ( 31 ) بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل . ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي : يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث . أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا . ومن باب أولى في العورات الثلاث . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم التي ليسوا هم لها ، وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة . وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فلذلك بسبب حالتها الجنسية . والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل .


[1551]:انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن