التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ} (57)

{ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون 56 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون 57 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتهم الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين 58 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون 59 وكأين 1 من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم 60 } [ 56-60 ] .

في الآيات خطاب موجه إلى المؤمنين .

1- يثبتهم في دينهم وإخلاصهم في العبادة لله وحده .

2- ويطمئنهم بأن أرض الله واسعة يستطيعون أن يجدوا فيها الأمن والعافية والحرية .

3- ويذكرهم بأن الموت مصير كل حي وبأن الله مرجع الناس جميعا .

4- ويؤكد لهم بأن الله سينزل المؤمنين الصالحين بأعمالهم غرفا في الجنة تجري من تحتها الأنهار . وأنها لنعم الأجر لمن آمن وعمل صالحا وصبر على الحق وجعل اعتماده وتوكله على الله .

5- وينبههم إلى أن الله تعالى قد تكفل برزق جميع خلقه من الأحياء . وكما أن كثيرا من الدواب لا تدخر رزقا ولا تكسب ما يضمن لها الرزق والله يرزقها فإنه كذلك يرزقهم أيضا فلا يقلقوا من هذه الناحية ، وهو السميع لكل ما يقال العليم بجميع الأحوال .

تعليق على آية

{ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون }

وما بعدها

ويبدو هذا الفصل جديدا بالنسبة للسياق السابق أو مستقلا عنه ؛ حيث ينتقل الخطاب فيه إلى المؤمنين في أمر مقامهم في مكة بعد حكاية الموقف الجدلي بين النبي والمؤمنين من ناحية ، والكفار من ناحية . وحكاية تحدي الكفار بالمعجزات وبالتعجيل بالعذاب . ومثل هذا الانتقال من أساليب النظم القرآني مما مر منه أمثلة عديدة ؛ ولهذا لا نرى انقطاعا تاما بين هذا الفصل وما قبله . والمتبادر أنه نزل بعد الآيات السابقة فوضع في ترتيبه .

ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في صدد الآيات معظمها بدون سند أو عزو إلى تابعي أو صحابي وواحد منها معزو إلى ابن عمر {[1609]} منها أنها خطاب عام للمؤمنين بعدم إقامتهم في دار ظلم ومعصية وبهروبهم منها إلى أرض الله الواسعة حيث تكون لهم حرية العبادة والعمل في سبيله . ومنها أنها نداء للمؤمنين في مكة أو المستضعفين منهم للهروب والخروج من مكة لتكون لهم تلك الحرية . ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد الأذى على المسلمين في مكة وأمرهم بالخروج إلى المدينة قال بعضهم : كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا مال ؟ فمن يطعمنا ويسقينا ؟ فأنزل الله الآية الأخيرة . ومنها أنها نزلت في جماعة تخلفوا عن الهجرة من مكة تحسبا من الموت والعوز والضيق في أرض الغربة . ومنها حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر جاء فيه : ( أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بستانا من بساتين الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل فقال : كل يا ابن عمر ، قلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال : ولكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده ، فقلت : إنا لله ، الله المستعان . قال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما . فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين . قال : فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت { وكأين من دابة . . . . الخ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله . ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبئ رزقا لغد ) {[1610]} . وحديث ابن عمر والقول الذي قبله يقتضيان أن تكون الآيات أو الآية [ 59 ] مدنية نزلت لحدتها مع أنه ليس هناك رواية ما بذلك فيما اطلعنا عليه . وقد قيل مثل القول الذي قبل الحديث في مناسبة الآيات الأولى من السورة وأوردناه وعلقنا عليه . والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة . والأقوال الأخرى محتملة الصحة على ما يلهمه فحوى الآيات وروحها أيضا ؛ حيث يلهمان أنها نزلت في ظرف اشتدت فيه الأزمة على المسلمين في مكة . وقد تضمنت تشجيعا على الهجرة منها تفريجا لهذه الأزمة وتطمينا لمن يمكن أن يخطر لباله خوف من العوز وضيق العيش في المهجر الجديد . وإذا صح حديث ابن عمر وهو في ذاته حديث رائع فيه تلقين مستمر المدى فيمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية في ظرف مثل الظرف المروي فالتبس الأمر على الرواة .

وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن المكي أو آخره . وظروف نزولها يصادف على ما هو المتبادر لظروف اتصال النبي عليه السلام ببعض زعماء الأوس والخزرج في موسمين متواليين وإيمانهم وتعهدهم بنصرته ونصرة المؤمنين والترحيب بهم إذا هاجروا إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى ( يثرب ) مما أشارت إليه آية سورة الحشر هذه إشارة تنويهية { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قلبهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 9 } وقد أخذ المؤمنون يهاجرون إلى المدينة نتيجة لذلك{[1611]} . والظاهر أن بعضهم كانوا يحسبون حساب الموت في دار الغربة أو حساب العوز والضيق فاحتوت الآيات تطمينا كافيا ومشجعا من الناحيتين . بالإضافة إلى وعدهم بغرفات الجنات في حياتهم الأخروية .

ومن شأن أسلوب الآيات وفحواها أن يبعثا الطمأنينة وقوة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب في اللحظة الحرجة التي كان فيها المسلمون ، حتى لقد عبرت آيات القرآن عن هجرتهم بما يفيد أنهم أرغموا عليها إرغاما كما ترى في آية سورة الحشر هذه التي احتوت تنويها بهم { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون 8 }

وتظل الآيات مستمرة التلقين في كل ظرف مماثل تبعث في نفس كل مؤمن الطمأنينة وقوة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب أيضا .

ولقد روى البغوي بطرقه على هامش هذه الآيات وبخاصة على هامش الآيتين [ 58-59 ] حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) . وجاء في ثانيهما عن ابن مسعود : ( أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته ) . والحديث الأول من مرويات الترمذي والحاكم عن عمر رضي الله عنه {[1612]} . وواضح من روح الحديثين ، وبخاصة الأول : أنهما في صدد تحذير المسلمين من التماس الرزق من طرق المعاصي إذا ما أبطأ عليهم وفي صدد تطمينهم بأن اعتمادهم وتوكلهم على الله هما الأولى والأجدر بهم ، وبذلك يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني .


[1609]:انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي واالزمخشري.
[1610]:النص من تفسير ابن كثير. وقد عقب المفسر عليه بقوله هذا حديث غريب. وأبو العطوف الجزري – وهو أحد رواته –ضعيف. ومع ذلك فإن المفسر البغوي روى هذا النص بخلاف يسير بطرقه.
[1611]:انظر سيرة ابن هشام القسم الأول الطبعة الثانية ص428 وما بعدها.
[1612]:انظر التاج ج 5 ص 187.