التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (112)

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( 110 ) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( 111 ) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءو بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( 112 ) } [ 110 112 ] .

في هذه الآيات :

1 خطاب تبشيري موجه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

2 وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب . فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين . ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون .

3 وخطاب تطميني موجه إلى المسلمين : فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدس والكيد واللسان . ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر . فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود . وقد لزمهم غضب الله وسخطه ؛ لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا .

تعليق على الآية

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ . . . } إلخ

والآيتين التاليتين لها

روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات . واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره . وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين . ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب . أحدهما أنهم اليهود خاصة ، وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا .

وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح . وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [ 61 ] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه . مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم ، ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة . ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [ 47 و 122 ] والدخان [ 32 ] والجاثية [ 16 و 17 ] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم ، فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس ؛ لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا .

على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يغلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية . وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق تفسير آيات الأنفال [ 55 58 ] وآيات آل عمران [ 12 13 ] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } [ 2 ] . فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه . وقد انطوى فيها إشارة على ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيدته الكتب والروايات القديمة{[458]} .

والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلة ومسكنة .

لقد قال بعض المفسرين{[459]} : إن المقصود من تعبير { منهم المؤمنون } هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم{[460]} : إنهم هم الذين آمنوا من اليهود . والذي نرجحه هو القول الثاني ؛ لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى .

ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه .

ومعظم ما جاء في الآية [ 112 ] ورد في الآية [ 61 ] من سورة البقرة ، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار .

ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } فقال بعضهم : إنه متصل وقال بعضهم : إنه منفصل . والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق . أما في الحالة الثانية فتكون الذلة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها . وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول ؛ حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم .

ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } منها أن { كنتم } زائدة أو تامة ويكون المعنى ( أنتم ) أو ( صرتم ) أو ( وجدتم ) . ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص . أو هم ( ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) وليس شيء من ذلك في الصحاح . والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين . وهم مهاجرون وأنصار . وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس .

وقد يصح أن يضاف إلى هذا : أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة{[461]} بعظيم صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية .

على أن هذا لا يمنع القول : إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان ، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة . وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات ، مع التنبيه على أمر مهم ، وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال : من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها .

وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال : إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش . وإنه لواجب عظيم مشرف . وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا . والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات .

وقد يصح أن يقال : إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك ، وإن لهم فيه النصيب الأكبر . فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم أجمع منهم . وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم . وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [ 143 و 78 ] ولا يمكن إلا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم .

ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ) . وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو : " تتمون سبعين أمة . . {[462]} " . والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم .


[458]:أنظر أسفار القضاة وصموئيل والملوك وأخبار الأيام ونبوءة أشعيا ونبوءة أرميا ومراثي أرميا وحزقيال وباروك وميخا وصفنيا وعوبيبديا وملاخي واستر وعزرا ونحميا والمكابيين وتاريخ يوسيفوس اليهودي من رجال القرن الأول الميلادي وتاريخ العبرانيين للمطران الدوبس. وقد استوعبنا ذلك في كتابنا (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم).
[459]:انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
[460]:انظر المصدر نفسه.
[461]:أنظر آيات سور المعارج (22 و 35) والذاريات (16 و 19) والشورى (36 و 43) وفاطر (29 و 34) والفرقان (64 و 76) والمؤمنون (1 و 11 و 57 و 61) والرعد (20 و 24) والحشر (8 و 10) والأحزاب (22) وآل عمران (169 و 174 و 195) والتوبة (71 و 72 و 88 و 89 و 100).
[462]:أنظر التاج، ج 4 ص 73، والحديث مساق في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج.