التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا} (44)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( 41 ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( 42 ) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ( 1 ) لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( 43 ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( 44 ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 45 ) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ( 46 ) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ( 47 ) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( 48 ) } . [ 41 48 ] .

عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها . والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته ، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال ، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا ، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير ، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة .

والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه ، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة . ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار .

وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما . ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم . فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه .

وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم ، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم ، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت . أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله تعالى " {[1687]} . ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " {[1688]} .

حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره ، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة . ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها . وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف . مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه .

ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ 45 و 46 ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : " لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل . والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي . سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق . ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ويغفر . ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع{[1689]} .

والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم ، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها ، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة{[1690]} . ومهما يكن من أمر فالآية [ 157 ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية .


[1687]:التاج، ج 5 ص 83.
[1688]:المصدر نفسه ص 78 و79 وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه.
[1689]:انظر كتاب السنة للسباعي ص 73.
[1690]:لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري.