التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۖ وَلِيُوَفِّيَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (19)

{ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني 1 أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين 15 أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون 16 والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج 2 وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين 17 أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين 18 ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون 19 ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون 20 } [ 15-20 ] .

1 أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني .

2 أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت .

في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :

1- فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال .

2- والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة . وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم .

تعليق على جملة

{ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة }

هذا ، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن . فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم ، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . . . إلخ } [ 6 ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا . ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم .

وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم ، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب ، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين ، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه .

3- وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم ، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف .

تعليق على جملة

تعليق على آية

{ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا }

وما بعدها

ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص {[1894]} . وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما . وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله {[1895]} . وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه : " كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه : { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج } الآية ، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " {[1896]} . على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه {[1897]} . ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول ، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني .

ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ 14-15 ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ 8 ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن .

وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ 15 ] مدنية ، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى .


[1894]:انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي
[1895]:انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
[1896]:التاج ج 4 ص 207.
[1897]:انظر تفسير ابن كثير . الجزء الخامس من التفسير الحديث* 2