التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

{ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني 1 أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين 15 أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون 16 والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج 2 وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين 17 أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين 18 ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون 19 ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون 20 } [ 15-20 ] .

4- ولسوف يوجه الله تعالى الخطاب يوم القيامة إلى الذين كفروا حينما يساقون إلى النار ويصفون أمامها لطرحهم فيها قائلا : إنكم استوفيتم طيباتكم في الحياة الدنيا واغتررتم بما كان لكم فيها . وألهاكم ذلك عن التفكير في الله وواجبكم ، وأضعتم الفرصة فسرتم في طريق الكفر والعصيان والاستكبار فاليوم تجزون بما تجزون وفاقا على سيرتكم هذه .

وقد يبدوا أنه لا صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة ويتبادر لنا احتمال كون القول الذي حكي عن الكفار في الآية [ 11 ] قد كان بين ابن كافر وأب مؤمن أو بالعكس . ويقوي هذا الاحتمال ورود تعبير { أساطير الأولين } في هذه الآيات ورود تعبير { إفك قديم } في تلك الآية . فإذا صح هذا و نرجو أن يكون صوابا إن شاء الله فتكون الصلة قائمة بين هذه الآيات وما قبلها ، وتكون هذه الآيات قد جاءت معقبة على ذلك الموقف .

تعليق على جملة

{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }

ولقد وقف بعض المفسرين عند جملة { أذهبتم طيباتكم } وأوردوا بعض الأحاديث التي قد تلقي في روع المسلم خوفا من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وتأثير ذلك على ما قد يكون له من نعيم في الآخرة ، فمما أورده البغوي حديث روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّرت الرمال بجنبه فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسّع عليهم وهم لا يعبدون الله فقال :

( أولئك قوم قد عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا ) . وحديث عن جابر بن عبد الله قال : إن عمر رضي الله عنه رأى لحما معلقا في يدي فقال : ما هذا يا جابر ؟ فقلت له : لحم اشتريته فقال : أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريته ؟ أما تخاف هذه الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } . وقد علق البغوي المفسر على ذلك في سياق تفسير الآية قائلا : لما وبّخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة ، ثم أخذ يروي بعض أحاديث عن شظف عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومنها حديث عن عائشة جاء فيه : ( ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وحديث آخر عنها جاء فيه : لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا ، وما لنا إلا الماء والتمر غير أن الله جزى نساء من الأنصار خيرا كن يهدين إلينا شيئا من اللبن " . ومنها حديث عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه أتى بطعام وكان صائما فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفّن في بردة إن غطي بها رأسه بدت قدماه وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه ، وقتل حمزة وهو خير مني ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا منها ما أعطينا ، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام .

ومما أورده الطبري " أن عمر بن الخطاب قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي " . و " أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذي ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر وقال : لئن كان حظنا في الحطام ، وذهبوا بالجنة لقد باينونا بعيدا " و " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة ، وهي مكان يجتمع فيه فقراء المسلمين ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا قال : أنتم اليوم خير ، أو يوم يغدو أحدكم في حلة ، ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة . قالوا : نحن يومئذ بخير ؟ قال : بل أنتم اليوم خير ) . و ( قال أبو هريرة : إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الأسودين الماء والتمر ، والله ما كنا نرى سمراءهم هذه ولا ندري ما هي ) . ومما أورده الطبرسي ( أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد ، وكان يشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما ، ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه ، وكان يطعم الناس في ولايته خبز البُرِّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخل " . وهذه الأحاديث والروايات غير موثقة ، وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة . ومع ذلك فإنها إن صحت فالأولى حملها على محمل الرغبة في التفرغ للمهام العظمى التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وكبار أصحابه رضي الله عنهم والاستغراق فيها ، أو تهوين الحرمان الذي كان يعيش فيه فقراؤهم ، وليس فيها ما يدل على كراهية الاستمتاع بالطيبات دنيا ، والآية موجهة إلى الكفار على سبيل التوبيخ ؛ لأنهم استغرقوا في الدنيا وشهواتها ونسوا الله و واجباتهم نحوه ، ونحو خلقه فلم يبق لهم إلا العذاب ، فلا يصح أن تورد في مورد كراهية الطيبات بالنسبة للمسلم ولا سيما هناك آيات قرآنية صريحة تبيح الطيبات له وتنهاه عن تحريمها على نفسها ضمن حدود الاعتدال مثل آيات سورة الأعراف هذه : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 32قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون 33 ومثل آيات سورة المائدة هذه : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 87 وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون 88 } حيث تنكر الآيات تحريم الطيبات وزينة الله ، وتقرر بأن للمؤمنين أن يستمتعوا بها مع الناس من دون إسراف ولا تجاوز وستكون من نصيبهم وحدهم يوم القيامة . وفي هذا ما فيه من قوة وروعة وتشجيع بل ونقض للفكرة التي أريد استخراجها من الآية بالنسبة للمسلم . فالاستمتاع إنما يكون مذموما محظورا إذا كان فيه إثم أو إسراف أو استغراق يحول دون مراقبة المسلم لربه ودون قيامه بواجباته . وإن المحرم عليه هو الفواحش والإثم والبغي والشرك .