التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمۡ وَإِخۡوَٰنَكُمۡ أَوۡلِيَآءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 23 ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ( 1 ) وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 24 ) } ( 23 – 24 ) .

عبارة الآيات واضحة . وقد تضمنت :

( 1 ) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان . ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات ؛ لأنه بذلك يعرضها للخطر .

( 2 ) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله . فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه . وإن هذا لفسق ، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم .

تعليق على الآية :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ }

والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات

لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا : نبقى لنقوم بمهمتنا . وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح ! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة : { فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } تعني فتح مكة . وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تختلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في الآية ( 72 ) من سورة الأنفال . كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدوا ولحقوا بمكة . وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا . وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزوهم . وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها . وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه ؛ لأنها تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي . ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة . ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك .

والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب مازالوا على شركهم ، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم . ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأرض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها . ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة . ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم ، فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع .

والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية . فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله و الجهاد في سبيله أحب إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية . وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه . وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كل ظرف ومكان . وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا القياس الرقيق الشديد الخالد . وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق . وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه .

ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا . كما جاء في آيات سورة الإسراء ( 23 – 24 ) وسورة لقمان ( 13 – 14 ) وسورة العنكبوت ( 8 ) ثم تطور هذا في الآية ( 22 ) من سورة المجادلة ؛ حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يواد من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا . والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو : { من حاد الله ورسوله } وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها : { إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ } وهذا لا يعني العداء دائما . وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتدادا أمرهما كما هو المتبادر . وفي ذلك كله صور من صور السيرة النبوية .

ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول ( الأولياء ) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر . بحيث يمكن أن يقال : إن حكم آية سورة الممتحنة : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البر بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادين مسالمين كافين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين .

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الآن يا عمر ) . وحديثا رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا ( 1 ){[1045]} . وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) ( 2 ){[1046]} . حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية .


[1045]:التاج ج 1 ص 22.
[1046]:المصدر نفسه.