فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمۡ وَإِخۡوَٰنَكُمۡ أَوۡلِيَآءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة ، والخطاب للمؤمنين كافة وهو حكم باق إلى يوم القيامة ، يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين والمراد النهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من أفراد المشركين بقضية مقابلة الجمع بالجمع الموجب لانقسام الآحاد إلى الآحاد كما في قوله : { وما للظالمين من أنصار } لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من اللفظ دلالة لا عبارة .

وقالت طائفة من أهل العلم أنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر ، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب ، نهوا أن يوالوا الآباء والأخوة فيكونون لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر ، وقال بعضهم : حمل هذه الآية على الهجرة مشكل ، لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي آخر القرآن نزولا ، والأقرب أن يقال أن الله تعالى لما أمر بالتبرئ عن المشركين قالوا : كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه ، فذكر الله تعالى أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه أو أخاه أو ابنه .

وقال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة ، وقال ابن العباس : لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك بالله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم ، وأنزل هذه الآية ، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب .

{ إن استحبوا الكفر } أي أحبوا كما يقال استجاب بمعنى أجاب ، وهو في الأصل طلب المحبة أي إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه { على الإيمان } وتركوه وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة ، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم فقال :

{ ومن يتولهم } فيه مراعاة لفظ من { منكم فأولئك } فيه مراعاة معناها { هم الظالمون } فدل على أن تولي من كان كذلك واختيار المقام معه على الهجرة والجهاد من أعظم الذنوب وأشدها .