التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (26)

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( 25 ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( 26 ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 27 ) } ( 25 – 27 ) .

عبارة الآيات واضحة كذلك ، وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المن الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين ؛ حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم ، واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين . ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله . أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما ؛ حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم .

تعليق على الآية :

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور

وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات . والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما . وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان . وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا . وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة . ثم أنزل الله سكينته على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا .

وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة ، ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط ، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة .

وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة .

ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة . وملخص ما روته الروايات عنها ( 1 ){[1047]}أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف ، وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة . ولكن زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أسرع وتم استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف . وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجموعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل شوال على رأس ( 12000 ) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات : لن نغلب اليوم من قلة . وكان قائد القبائل مالك بن عوف . واشتبك الفريقان . وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف . غير أنه كان فيهم رماة ماهرون . فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم . ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل ، فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعلي والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين رضي الله عنهم . وأخذ ينادي الناس بصوته : يا أنصار الله يا أنصار رسول الله . فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم ، وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين : لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الآن حمي الوطيس . وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته :

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

وأيد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين ، فانهزموا لا يلوون على شيء ، واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونسائهم وأطفالهم ، وكان عدد السبي ( 6000 ) والإبل ( 24000 ) والغنم ( 40000 ) والفضة ( 4000 ) أوقية .

وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف ؛ لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم . وحاصرهم نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين . وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها ، فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال : أدعها لله والرحم ، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم : ( ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا ينادي بالرحيل . وأمر الناس أن يهتفوا : ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال : ( اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ) .

وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال : ( حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله . قال أصحابه : نرجع ولم نفتح . فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه ، فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا قافلون غدا . قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 1 ){[1048]} .

وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها . وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام ، فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين ، ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما ، ثم وزع الباقي على سائر الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال ، وفعل كذلك بالسبي . أي : أنه قرر استرقاق السبي – النساء والأطفال – ووزعهم كغنائم على المسلمين .

ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه رد أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم من أموالكم ؟ فقالوا : بلى . فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله . ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم . فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما كان لنا فهو لرسول الله ، وقال بنو سليم كذلك ، وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما من تمسك بحقه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه . فقبل الممتنعون وردوا ما في أيديهم من السبايا .

ومما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالوا : قتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له : إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف ( 1 ){[1049]} .

ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنح زعمائهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي قومه . ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت . قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء . فقال له : اجمع لي قومك فجمعهم ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله : ( يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . الله ورسوله أمن وأفضل . ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المن والفضل فقال لهم : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم وصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطردا فآويناك . وعائلا فآسيناك . أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم ؟ فواللذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار . اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) ( 1 ){[1050]} . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة . وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم .

وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز ، وفي بعضها مغايرة وتوضيح ، وفي بعضها صور لم ترد في الروايات . وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها .

من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه : ( إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين : أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم . فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال : ما حديث بلغني عنكم . فقال له فقهاء الأنصار : يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا : يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم . أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به . فقالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا . قال : فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة . فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض . قالوا : سنصبر ) ( 1 ){[1051]} . وروى مسلم والبخاري عن أنس قال : ( جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار فقال : أفيكم أحد من غيركم . فقالوا : لا إلا ابن أخت لنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ابن أخت القوم منهم . فقال : إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة ، وإني أردت أن أجيرهم وأتألفهم . أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ، لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ) ( 2 ){[1052]} . وروى مسلم والبخاري عن عبد الله قال : ( لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل : والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله . قال : فقلت : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته فأخبرته قال : فتغير وجهه حتى كان كالصّرف ثم قال : فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله . ثم قال : يرحم الله موسى . قد أوذي بأكثر من هذا فصبر . قلت : لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا ) ( 3 ){[1053]} . وروى مسلم عن رافع بن خديج قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل . وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس :

أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع

فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع

قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المائة ) ( 1 ){[1054]} .

وروى البخاري ومسلم عن العباس قال : ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم نفارقه وهو على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي . فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها ؛ لئلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي عباس ناد أصحاب السمرة ( 2 ){[1055]} فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة . قال : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها تعالوا يا لبيك يا لبيك فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ، ظظظظظظظظظالدعوة على بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث يا بني الحارث . فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتالهم وهو على بغلته وقال : هذا حين حمي الوطيس . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار . ثم قال : انهزموا ورب محمد . قال : فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما نرى . قال : فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدهم كليلا وأمرهم مدبرا . وفي رواية رماهم بقبضة من تراب وقال : شاهت الوجوه . فولوا مدبرين وانهزموا وقسمت غنائمهم بين المسلمين ) ( 3 ){[1056]} . وفي رواية للبخاري : ( لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا . قال : يا معشر الأنصار . قالوا : لبيك يا رسول الله وسعديك . لبيك نحن بين يديك . فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أنا عبد الله ورسوله . فانهزم المشركون . فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا فقالوا في ذلك ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدخلهم في قبة . قال : أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله . لو سلك الناس واديا ، وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار ) وفي رواية قال : ( كنا إذا احمر البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه ) ( 1 ){[1057]} .

وروى الشيخان عن أبي موسى قال : ( لما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس ، فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه . قال أبو موسى : وبعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي عامر فرماه رجل جشمي بسهم في ركبته فانتهيت إليه فقلت : يا عم من رماك ؟ فأشار إلي فقال : ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته ، فلما رآني ولى فاتبعته فجعلت أقول له ألا تستحيي ؟ ألا تثبت ؟ فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ، ثم رجعت لأبي عامر فقلت : قتل الله صاحبك . قال : فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء . قال : يا ابن أخي أقرئ النبي السلام وقل له : استغفر لي . واستخلفني أبو عامر على الناس . فمكث يسيرا ثم مات فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيته على سرير مرمل ( 2 ){[1058]} ، وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه . فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال : قل له استغفر لي ، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال : اللهم اغفر لعبيد بن أبي عامر . اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس . فقلت : ولي فاستغفر فقال : اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما . قال أبو بردة : إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى ) ( 3 ){[1059]} .

ونستطرد إلى ذكر فتح الطائف للمناسبة أيضا . ولقد كان ذلك بعد سنة من فتح مكة . وقد جاء أحد زعماء ثقيف عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم ، فاستأذنه في الذهاب إلى الطائف ليدعو قومه فأذن له . فلما وصل حيا الناس بتحية الإسلام ، فاستنكروا فلما طلع الفجر أذن للصلاة من فوق غرفة له ، فخرج الناس منكرين عليه ، ورماه أحدهم بسهم فانبرت عشيرته للمقابلة وكاد الشر يتسع بين الناس فقال رضي الله عنه : تصدقت بدمي لأصلح بين الناس وهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها إلي . فلما قضى نحبه جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع رفيق له فأسلما . واستدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مالك بن عوف فعهد إليه بثقيف فقال له : أنا أكفيكهم حتى يأتوك مسلمين . ثم صار يغير على سرحهم ويقاتلهم حتى أزعجهم ، فاتفقوا على إرسال وفد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمفاوضته على التسليم والإسلام وجاء الوفد وكانوا سبعين رجلا وعلى رأسهم زعماؤهم عبد ياليل وابناه وكنانة وشرحبيل بن غيلان وغيرهم فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقدمهم وضرب لهم قبة في المسجد . وقد حاولوا الحصول على بعض الامتيازات فلم يتساهل معهم ، فاستعفوه من هدم أصنامهم بأيديهم فأعفاهم فأسلموا . وغدت الطائف في حوزة السلطان النبوي وكان ذلك في رمضان أو شوال من السنة التاسعة للهجرة ( 1 ){[1060]} .


[1047]:انظر ابن سعد ج 3 ص 200 - 212، وابن هشام ج 4 ص 65 – 149، وتاريخ الطبري ج 2 ص 344 – 360. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا.
[1048]:التاج ج 4 ص 391.
[1049]:الخادم أو المملوك.
[1050]:انظر التاج ج 4 ص 389.
[1051]:التاج ج 4 ص 344 و 345 والحديث الأول يفيد أن ذوي الأسنان من الأنصار لم ينتقدوا. وهم لا شك السابقون الأولون الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في إحدى آيات هذه السورة.
[1052]:المصدر نفسه.
[1053]:المصدر نفسه ص 345 و 346.
[1054]:التاج ج 4 ص 345 و 346.
[1055]:السمرة هي الشجرة التي بايع أصحاب رسول الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحتها يوم الحديبية. وهي التي عنتها آية سورة الفتح: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
[1056]:التاج ج 4 ص 388 و 389.
[1057]:التاج ج 4 ص 388 و 389.
[1058]:مشدود بحبال الحصر.
[1059]:التاج ج 4 ص 390.
[1060]:انظر تفصيل فتح الطائف في ابن هشام ج 4 ص 194 – 200، وابن سعد ج 2 ص 77 – 78.