الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ} (3)

[ قوله ] : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } : " ما " في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى الذي . فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ ؛ لأنهم غيرُ عقلاءَ . و " ما " أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ ، وإذا أُريد بها الباري تعالى ، كما في الثانيةِ والرابعةِ ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ . ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً . والتقديرُ : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثلَ عبادتي . وقال أبو مسلم : " ما " في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي ، والمقصودُ المعبودُ و " ما " في الأخيرَيْن مصدريةٌ ، أي : لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين . فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ : أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي ، والأَخيرتان مصدريَّتان . ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : لو قيل : بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي ، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ ، لكان حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ " ما " على أولي العلمِ ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم .

واختلف الناسُ : هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا ؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك ، فقال جماعة : هو للتوكيدِ . فقولُه { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيدٌ لقولِه { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ، وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ثانياً توكيدٌ لقولِه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أولاً ، ومثلُه قولُه { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }[ المرسلات : 15 ] في سورتَيْهما ، و { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 34 ] و { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }[ النبأ : 45 ] . وفي الحديث : " فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني " ، قال الشاعر :

هَلاَّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ *** دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا

وقال آخر :

يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ *** خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ

وقال آخر :

يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ *** إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ

وقال آخر :

ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي *** ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ

وقال آخر :

يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً *** يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ

قالوا : والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ . وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ ، وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً .

وقال جماعةٌ : ليس للتوكيدِ ، فقال الأخفش : " لا أعبد الساعةَ ما تعبدون ، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ ما عَبَدْتُمْ ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد ، فزال التوكيدُ ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر " انتهى .

وفيه نظرٌ . كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ ، هذا لا يَصِحُّ . وفي الأسبابِ : أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً ، فنزَلَتْ ، فكيف يَسْتقيم هذا ؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه : وهو كونُ " ما " في الأوَّلَيْن بمعنى الذي ، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً ، وفيه نظرٌ أيضاً مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى ، وهذا موجودٌ ، كيف قَدَّرَتْ " ما " . وقال ابن عطية : " لَمَّا كان قولُه " لا أَعْبُدُ " محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ، ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه ، جاء البيانُ بقولِه :{ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : أبداً وما حَيِيْتُ ، ثم جاء قولُه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ ، كما قيل لنوح عليه السلام : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ ، وليس بتَكْرارٍ فقط ، بل فيه ما ذكْرَتُه " .

وقال الزمخشريُّ : " { لا أعبدُ } أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل ؛ لأنَّ " لا " لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أنَّ " ما " لا تدخُلُ إلاَّ على مضارعٍ في معنى الحال . والمعنى : لا أفعلُ في المستقبل ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم ، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي ، { ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ } أي : وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه ، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية . فكيف تُرجَى مني في الإِسلامِ ؟ { ولا أنتم عبادون ما أعبدُ } أي : وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه . فإنْ قلتَ : فهلاَّ قيل : ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ . قلت : لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ . فإن قلت : فلِمَ جاء على " ما " دونَ مَنْ ؟ قلت : لأنَّ المرادَ الصفةُ ، كأنه قيل : لا أعبدُ الباطلَ ، ولا تعبدون الحقَّ . وقيل : إن " ما " مصدريةٌ ، أي : لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي " انتهى . يعني بقولِه " لأن المرادَ الصفةُ " يعني أنه أريدُ ب " ما " الوصفُ ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها ، واعتراضَ الشيخِ عليه ، والجوابَ عنه ، وأصلُه في سورة النساء عند قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] .

وناقشه الشيخ هنا فقال : " أمَّا حَصْرُه في قولِه : " لأن " لا " لا تَدْخُل " إلى آخره . وفي قوله : " كما أن " ما " لا تَدْخُلُ " إلى آخرِه ؛ فليس بصحيحٍ ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ .

وقد ذكر النحاةُ دخولَ " لا " على المضارع يُرادُ به الحالُ ، ودخول " ما " على المضارع يُراد به الاستقبالُ . وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال : " وتَكونُ " لا " نفياً لقولِه يَفْعَلُ ، ولم يقع الفعلُ " وقال : " وأمَّا " ما " فهي نفيٌ لقولِه : هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل " فذكر الغالبَ فيهما . وأمَّا قولُه ، في قولِه : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه ، فلا يَسْتقيم ؛ لأنَّ عابداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في " ما عَبَدْتُمْ " ، فلا يُفَسَّر بالماضي ، إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً . وأمَّا قولُه : { ولا أنتم عابدون ما أعبدُ } ، أي : وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه ، فعابِدون قد أعملَه في " ما أعبد " فلا يُفَسَّر بالماضي .

وأمَّا قولُه " وهو لم يكن " إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ ، وغيرُ صحيح ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى ، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه ، مُجْتنباً لأصنامِهم ، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ ، وهذه عبادةٌ ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم ؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ . قال تعالى :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قال المفسِّرون : إلاَّ ليَعْرِفونِ ، فسَمَّى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً " انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه .

ويُجابُ عن الأولِ : أنه بَنَى أمرَه على الغالبِ ، فلذلك أتى بالحَصْرِ ، وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه . وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله تعالى :{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وقوله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] نحوهُ .

وأمَّا قولُه : " كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً " فمُسَلَّمٌ . وقوله : " وهذه أعظمُ العباداتِ " مُسَلَّم أيضاً . ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها ، فقابَلَ هذا صلى الله عليه وسلم بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى . ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه ، وهي : كان يتحنَّث ، كان يتعبَّدُ ، كان يصومُ ، كان يطوفُ ، كان يَقفُ ، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناسِ . وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ . وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد ؟ قيل : بشرعِ نوحٍ ، وقيل : إبراهيم ، وقيل : موسى ، وقيل : عيسى ، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها .

ثم قال الشيخ : " والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل ؛ لأن الغالِبَ في " لا " أَنْ تنفي المستقبلَ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للمستقبلِ ، على سبيل المقابلةِ . ثم قال : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نَفْياً للحال ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون حالاً ولا مستقبلاً . وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر . ولَمَّا قال : " لا أعبدُ ما تبعدون " فأطلق " ما " على الأصنامِ قابلَ الكلام ب " ما " في قولِه " ما أعبد " وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى ؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : إنَّ " ما " لا تقع على آحادِ أولي العلمِ . أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ " .