الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ} (1)

قوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } : في متعلَّقِ هذه اللامِ ، أوجهٌ : أحدُها : أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ } [ قريش : 5 ] . قال الزمخشري : " وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ " ، وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به ، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدة بلا فَصْلٍ . وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وفي الأولى بسورةِ " والتين " ، انتهى . وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ ، إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال : " ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ : بأنَّه لو كان كذا لكان " إِيلافِ " بعضَ سورةِ " ألم تَرَ " ، وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك " .

الثاني : أنَّه مضمرٌ ، تقديرُه : فَعَلْنا ذلك ، أي : إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش . وقيل : تقديرُه اعْجَبوا .

الثالث : أنه قولُه " فَلْيَعْبُدوا " .

وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ ، أي : فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم ، فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم ، قاله الزمخشري ، وهو قولُ الخليلِ قبلَه .

وقرأ ابن عامر " لإِلافِ " دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ ، والباقون " لإِيلافِ " بياءٍ قبلَها ، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني ، وهو " إيلافِهِمْ " . ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً ، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً ، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ .

فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ ل( أَلِف ) ثلاثياً ، يُقال : أَلِفْتُه إلافاً ، نحو : كتبتُه كِتاباً ، يُقال : أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً . وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه :

زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ *** لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ

والثاني : أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً ، نحو : قاتَلَ قِتالاً . وقال الزمخشري : " أي : لمُؤالَفَةِ قريشٍ " .

وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم ، يقال : آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً . قال الشاعر :

مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ *** شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ

وقرأ عاصمٌ في روايةٍ " إأْلافِهم " بمهزتين : الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ ، وهي شاذَّةٌ ؛ لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان . ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ . وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ ، وهذه أَشَذُّ مِنْ الأولى ، ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها ، فقال : " بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ ، وهو بعيدٌ . ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] .

وقرأ أبو جعفر " لإِلْفِ قُرَيْشٍ " بزنة قِرْد . وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله :

4649 . . . . . . . . . . . . . . . . . *** لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ

وعنه أيضاً وعن ابن كثير " إلْفِهم " ، وعنه أيضاً وعن ابن عامر " إلا فِهِمْ " مثل : كِتابهم . وعنه أيضاً " لِيْلافِ " بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ . وقرأ عكرمةُ " لِتَأْلَفْ قُرَيْش " فعلاً مضارعاً ، وعنه " لِيَأْلَفْ " على الأمر ، واللامُ مكسورةٌ ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ .

وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ . قيل : هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ ، وهو الصحيحُ . وقيل : هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك بن النَّضْر بنِ كِنانةَ . فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون ، وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين . ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ .

واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه ، أحدها : أنه من التَّقَرُّشِ ، وهو التجمُّعُ ، سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم . قال الشاعر :

أبونا قُصَيُّ كان يُدْعى مُجَمِّعاً *** به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ

والثاني : أنه من القَرْشِ ، وهو الكَسْبُ . وكانت قريشٌ تُجَّاراً . يقال : قَرَشَ يَقْرِشُ ، أي : اكتسب . والثالث : أنه مِنْ التفتيش . يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني ، أي : فَتَّش . وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم . قال الشاعر :

أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا *** عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ

وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس ، فقال : سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها : القِرْش ، تأكلُ ولا تُؤكَل ، وتَعْلو ولا تُعْلى ، وأنشد قولَ تُبَّعٍ :

وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ *** رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ *** رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا

هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ *** يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا

ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ *** يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا

ثم قريشٌ : إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ . فقيل : الأصلُ : مُقْرِش . وقيل : قارِش ، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ . وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ، ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ ، كقولِ الشاعر :

غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً *** وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها

قال سيبويه : في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ : " هذه للأحياءِ " ، وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ " .

قوله : { إِيلاَفِهِمْ } مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً ؛ ولذلك اتّصَلَ بضميرِ ما أُضيف إليه الأولُ ، كما تقولَ : لِقيامِ زيدٍ لقيامِه أكرمْتُه " وأعربه أبو البقاء بدلاً ، والأول أَوْلَى .

قوله : { رِحْلَةَ } مفعولٌ به بالمصدرِ ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله ، أي : لأَنْ أَلِفوا رحلةَ . والأصلُ : رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ ، ولكنه أُفْرِدَ لأَمْنِ اللَّبْسِ ، كقولِه :

كُلوا في بَعْضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قاله الزمخشري ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ سيبويهِ يجعلُ هذا ضرورةً ، كقولِه :

حَمامةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل : " رِحْلة " اسمُ جنسٍ . وكانت لهم أربعُ رِحَلٍ . وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلكَ . وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ . وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي يُرْحَلُ إليها .

والشتاءُ لامُه واوٌ ، لقولِهم : الشَّتْوَةُ ، وشتا يَشْتُو . وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه : شَتَوِيّ . والقياس : شِتائيّ أو شِتاويّ ، ككِسائيّ وكِساوِيّ .