الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

قوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } : أي : خَسِرَتْ ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً ؛ لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما ، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه . وقوله : " تَبَّتْ " دعاءٌ ، و " تَبَّ " إخبارٌ ، أي : قد وقع ما دُعِيَ به عليه . كقول الشاعر :

جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه *** جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ

ويؤيِّده قراءةُ عبد الله " وقد تَبَّ " ، والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما .

وقرأ العامة " لَهَبٍ " بفتح الهاء ، وابنُ كثيرٍ بإسكانِها . فقيل : لغتان بمعنىً ، نحو النَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والنَّفَر والنَّفْر ، والضَّجَر والضَّجْر . وقال الزمخشري : " وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ ، كقوله : " شُمْس ابن مالك " بالضم ، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ -بفتح الشين- فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر :

وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ *** لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ

وجَوَّزَ الشيخُ في " شُمْس " أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ " شُمْس " الجمع مِنْ قولِه : " أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ " ، فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ . وكَنَى بذلك : إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه ، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه ، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ ، كقولِهم : أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه . وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم ، أو لأنَّها أَنْقصُ منه ، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم ، أو لُقْبح اسمِه ، فإنَّ اسمَهِ " عبد العُزَّى " فعَدَلَ إلى الكُنْية ، وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ : إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته ، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ " . انتهى . وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً .

وقُرئ : " يدا أبو لَهَبٍ " بالواوِ في مكانِ الجرِّ . قال الزمخشري : " كما قيل : عليُّ بن أبو طالب ، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان ، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ، ول( فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ ) أميرِ مكة ابنان ، أحدُهما : عبدِ الله بالجرِّ ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب " ، ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه : { ذاتَ لَهَب } أنها بالفتح . والفرقُ أنها فاصلةٌ ، فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ .