الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا تَرَـٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ} (61)

قوله : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } : قرأ العامَّةُ " تراءَى " بتحقيقِ الهمزة ، وابن وثاب والأعمش من غير همزٍ . وتفسيرُه أن تكنَ الهمزةُ مخففةً بينَ بينَ ، لا بالإِبدال المحض ؛ لئلا تجتمعَ ثلاثُ أَلِفاتٍ : الأولى الزائدةُ بعد الراءِ ، والثانيةُ المبدلةُ عن الهمزةِ ، والثالثةُ لامُ الكلمة ، لكن الثالثة لا تَثْبُتُ وَصْلاً . لحذفِها لالتقاء الساكنين . ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فأقول : هذا الحرف إمَّا أَنْ يُوْقَفَ عليه أو لا . فإن وُقِفَ عليه : فحمزةُ يُميل ألفَه الأخيرةَ لأنها طرفٌ منقبلةٌ عن ياء . ومن ضرورةِ إمالتِها إمالةُ فتحةِ الهمزةِ المُسَهَّلَةٍ ؛ لأنه إذا وُقف على مثلِ هذه الهمزةِ سَهَّلَها على مقتضى مذهبِه ، وأمال الألفَ الأولى إتْباعاً لإِمالةِ فتحةِ الهمزةِ . ومِنْ ضرورةِ إمالَتِها إمالةُ فتحةِ الراءِ قبلها . وهذا هو الإِمالةُ لإِمالةٍ .

وغيرُه من القُرَّاءِ لا يُميل شيئاً من ذلك ، وقياسُ مذهبِ الكسائيِّ أَنْ يُميلَ الألفَ الأخيرةَ وفتحةَ الهمزةِ قبلها . وكذا نقله ابنُ الباذش عنه وعن حمزةَ .

وإنْ وُصِلَ : فإنَّ ألفَه الأخيرةَ تَذْهَبُ لالتقاءِ الساكنين ، ولذهابِها تَذْهَبُ إمالةُ فتحةِ الهمزة وتبقى إمالةُ الألف الزائدة . وإمالةُ فتحةِ الراءِ قبلَها عنده اعتداداً بالألفِ المحذوفةِ . وعند ذلك يُقال : حُذِفَ السببُ وبقي المُسَبَّبُ ؛ لأن إمالةَ الألفِ الأولى إنما كان لإِمالةِ الألفِ الأخيرةِ كما تقدَّم تقريرُه ، وقد ذَهَبَتِ الأخيرةُ ، فكان ينبغي أَنْ لا تُمال الأولى لذهابِ المُقْتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوفَ ، وجعلَه في قوةِ المنطوقِ ، ولذلك نحا عليه أبو حاتمٍ فقال : " وقراءةُ هذا الحرفِ بالإِمالةِ مُحالٌ : قلت : وقد تقدَّم في الأنعام عند " رأى القمر " و " رأى الشمس " ما يُشْبه هذا العملَ فعليك باعتبارِه ثَمَّة .

قوله : { لَمُدْرَكُونَ } العامَّةُ على سكونِ الدالِ اسمَ مفعولٍ مِنْ أَدْرك أي : لمُلْحَقُون . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدالِ مشدَّدةً وكسرِ الراء . قال الزمخشري : " والمعنى : متتابِعُون في الهَلاك على أيديهم . ومنه بيت الحماسة :

أَبَعْدَ بَني أمِّي الذين تتابَعُوا *** أُرَجِّيْ الحياةَ أم مِنْ الموتِ أجْزَعُ

يعني : أن ادَّرَك على افْتَعَل لازمٌ بمعنى فَنِي واضْمَحَلَّ . يقال : ادَّرَكَ الشيءُ يَدَّرِكُ فهو مُدَّرِك أي : فَنِيَ تتابعاً ، ولذلك كُسِرَت الراءُ . وممَّنْ نَصَّ على كسرِها أبو الفضلِ الرازي قال : " وقد يكون " ادَّرَكَ " على افْتَعَل بمعنى أَفْعَلَ متعدِّياً ، ولو كانَتِ القراءةُ مِنْ هذا لَوَجَبَ فتحُ الراءِ ، ولم يَبْلُغْني عنهما يغني عن الأعرجِ وعُبيد إلاَّ الكسرُ " .