اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا تَرَـٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ} (61)

قوله : { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } أي : تقابلا ورأى بعضهما بعضاً . قرأ العامة : «تَرَاءَى » بتحقيق{[37225]} الهمزة . وابن وثاب والأعمش من غير همز{[37226]} ، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين ، لا بالإبدال المحض ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات ، الأولى الزائدة بعد الراء ، والثانية المبدلة من الهمزة ، والثالثة لام الكلمة ، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكنين{[37227]} . ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول : هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا ، فإن وقف عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة ؛ لأنها{[37228]} طرف منقبلة عن ياء .

ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة ، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب ، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة . ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها ، وهذا هو الإمالة لإمالة{[37229]} . وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك . وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة ، وفتحة الهمزة قبلها{[37230]} ، وكذا نقله ابن الباذش{[37231]} عنه وعن حمزة{[37232]} .

وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين ، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة ، وتبقى إمالة الألف الزائدة{[37233]} ، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة ، وعند ذلك يقال : حذف السبب وبقي المسبب ؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [ كما تقدم تقريره ، وقد ذهبت الأخيرة ]{[37234]} فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب{[37235]} المقتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق{[37236]} ؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقال : وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال{[37237]} . وقد تقدم في الأنعام عند «رَأَى القَمَرَ »{[37238]} و «رَأَى الشَّمْسَ »{[37239]} ما يشبه هذا العمل{[37240]} .

قوله : «لَمُدْرَكُونَ » . العامة على سكون الدال ، اسم مفعول من «أَدْركَ » أي : لملحقون . وقرأ الأعرج وعبيد بن عمرو{[37241]} بفتح الدال مشددة وكسر الراء{[37242]} .

قال الزمخشري : المعنى : متتابعون في الهلاك على أيديهم{[37243]} ، ومنه بيت الحماسة :

3909 - أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا *** أُرَجِّي الحَيَاةَ أَمْ مِنَ المَوْتِ أَجْزَعُ{[37244]}

يعني : أن «ادَّرَك » على «افتعل » لازم بمعنى فني واضمحلّ ، يقال : ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك ، أي : فني متتابعاً{[37245]} ، ولذلك كسرت الراء . وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي ، قال : «وقد يكون «ادَّرَك » على «افتعل » بمعنى «أفعل » متعدياً ، ولو كانت القراءة من هذا لوجب{[37246]} فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني : عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر »{[37247]} .

فصل :

المعنى { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } ، أي : رأى كل فريق صاحبه .

وقرىء { فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ }{[37248]} قال أصحاب موسى : «إنَّا [ لَمُدْرَكُونَ » أي ]{[37249]} لَمُلْحَقُون ، وقالوا : يا موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا }{[37250]} كانوا يذبحون أبناءنا ، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا ، ولا طاقة لنا بهم ، فعند ذلك قال


[37225]:في ب: بتخفيف.
[37226]:أي: (تراي). قال ابن خالويه: ("فلما ترات الفئتان" بلا همز الأعمش عن عاصم) المختصر (107)، البحر المحيط 7/19، وفيه: ( وقال أبو حاتم: وما روي عن ابن وثّاب والأعمش خطأ).
[37227]:حكاه أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر البحر المحيط 7/19.
[37228]:في الأصل: لأن. وهو تحريف.
[37229]:انظر الحجة لابن خالويه (267-268)، الكشف 1/191-192.
[37230]:انظر الحجة لابن خالويه (268)، الكشف 1/191.
[37231]:هو أحمد بن علي بن أحمد خلف، أبو جعفر بن الباذش، الأنصاري الغرناطي، أستاذ كبير، وإمام محقق، ألف كتاب الإقناع في السبع، وكتاب الطرق المتداولة في القراءات قرأ على أبيه، وعبد الله بن أحمد الهمداني الجياني، وشريح بن محمد، وغيرهم، قرأ عليه أحمد بن علي بن حكيم الغرناطي، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري، مات سنة 540 هـ، وقيل: سنة 542 هـ. طبقات القراء 1/83.
[37232]:قال أبو حيان (وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري هو ابن الباذش في كتاب الإقناع من تأليفه: ( تراءى الجمعان) في الشعراء، إذا وقف حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل (تفاعل) وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة، ففي قراءته إمالة الإمالة، وفي هذا الفعل وفي (راءى) إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا: صعقيّ في النسب إلى الصَّعق) البحر المحيط 7/19-20.
[37233]:في ب: والزائدة. وهو تحريف.
[37234]:ما بين القوسين سقط من ب.
[37235]:الأولى: سقط من الأصل.
[37236]:انظر: الكشف 1/191-192.
[37237]:انظر تفسير ابن عطية 11/116، البحر المحيط 7/19.
[37238]:من قوله تعالى: {فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربِّي} [الأنعام: 77].
[37239]:من قوله تعالى: {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربِّي هذا أكبر} [الأنعام: 78].
[37240]:انظر: اللباب 3/452-453.
[37241]:في ب: عمر. وفي المختصر، والمحتسب، وتفسير ابن عطية، والبحر المحيط: عبيد بن عمير.
[37242]:المختصر (107)، المحتسب 2/129، تفسير ابن عطية 11/115، البحر المحيط 7/20، وضبطها ابن خالويه، وأبو حيان بكسر الراء، وابن جني، وابن عطية بفتح الراء.
[37243]:الكشاف 3/116.
[37244]:البيت من بحر الطويل، قاله أبو الحناك البراء بن ربعي الفقعسي، وهو في الكشاف 3/116، البحر المحيط 7/20، شرح شواهد الكشاف (73). والشاهد فيه قوله: (تتابعوا). فهو بمعنى: انقرضوا واحداً بعد واحد.
[37245]:انظر: المحتسب 2/129، اللسان (درك).
[37246]:في ب: يوجب.
[37247]:انظر البحر المحيط 7/20.
[37248]:انظر الفخر الرازي 24/138.
[37249]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[37250]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.