الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَلَّآۖ إِنَّهَا لَظَىٰ} (15)

قوله : { إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً } : في الضميرِ ثلاثةُ أوجُهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ النار ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالةِ لفظِ " عذاب " عليها . والثاني : أنه ضميرُ القصةِ . الثالث : أنه ضميرٌ مبهمٌ يُتَرْجِمُ عنه الخبرُ ، قاله الزمخشري . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } . فعلى الأولِ يجوزُ في { لَظَى نَزَّاعَةً } أوجهٌ : أَنْ يكونَ " لَظى " خبرَ " إنَّ " ، أي : إنَّ النارَ لَظى ، و " نَزَّاعةٌ " خبرٌ ثانٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نَزَّاعةٌ ، أو يكونُ " لَظَى " بدلاً من الضميرِ المنصوبِ ، و " نَزَّاعةٌ " خبرُ إنَّ ، وعلى الثاني يكونُ " لَظى نَزَّاعةٌ " جملةً من مبتدأ وخبرٍ ، في محلِّ الرفعِ خبراً ل " إنَّ " مفسِّرةً لضمير القصة ، وكذا على الوجهِ الثالثِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " نَزَّاعةٌ " صفةً ل " لَظى " إذا لم تجعَلْها عَلَماً ؛ بل بمعنى اللَّهَبِ ، وإنما أُنِّث النعتُ فقيل : " نَزَّاعةٌ " لأنَّ اللهَبَ بمعنى النار ، قاله الزمخشريُّ وفيه نظرٌ لأنَّ " لظى " ممنوعةٌ من الصَّرْفِ اتفاقاً .

قال الشيخ بعد حكايته الثالثَ عن الزمخشري : " ولا أدري ما هذا المضمرُ الذي تَرْجَمَ عنه الخبرُ ؟ وليس هذا من المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المفردُ الضميرَ ، ولولا أنه ذَكَرَ بعد هذا " أو ضمير القصة " لَحَمَلْتُ كلامَه عليه " . قلت : متى جعله ضميراً مُبْهماً لَزِمَ أنَنْ يكونَ مفسَّراً بمفرد ، وهو إمَّا " لظى " ، على أَنْ يكونَ " نزاعةٌ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وإمَّا " نزاعةٌ " على أَنْ يكونَ " لظى " بدلاً من الضميرِ ، وهذا أقربُ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " لظى نَزَّاعةٌ " مبتدأ وخبراً ، والجملةُ خبرٌ ل " إنَّ " على أَنْ يكونَ الضميرُ مبهماً لئلا يَتَّحِدَ القولان ، أعني هذا القولَ وقولَ إنها ضميرُ القصة ، ولم يُعْهَدُ ضميرٌ مُفَسَّرٌ بجملةٍ إلاَّ ضميرُ الشأنِ والقصةِ .

وقراءةُ الرفعِ في " نَزَّاعَةٌ " هي قراءةُ العامَّةِ . وقرأ حفص وأبو حيوة والزعفَرانيُّ واليزيديُّ وابنُ مقسم " نَزَّاعَةً " بالنصب . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ ينتصبَ على الحالِ . وفي صاحبِها أوجهٌ ، أحدُهما : أنه الضميرُ المُسْتَكِنُّ في " لَظَى " لأنَّها ، وإنْ كانَتْ عَلَماً ، فهي جارِيَةٌ مَجْرَى المشتقات كالحارثِ والعَبَّاس ، وذلك لأنها بمعنى التَّلَظِّي " ، وإذا عَمِلَ العَلَمُ الصريحُ والكُنْيَةُ في الظروف فلأَنْ يعملَ العَلَمُ الجاري مَجْرى المشتقاتِ في الأحوالِ أَوْلَى وأَحْرى . ومِنْ مجيء ذلك قولُه :

أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأَحْيانْ ***

ضَمَّنه معنى " أنا المشهورُ في بعض الأحيان " . الثاني : أنه فاعلُ " تَدْعو " وقُدِّمَتْ حالُه عليه ، أي : تدعو/ حالَ كونِها نَزَّاعةً .

ويجوز أَنْ تكونَ هذه الحالُ مؤكِّدةً ، لأنَّ " لظى " هذا شأنُها ، وهو معروفٌ مِنْ أمرِها ، وأَنْ تكونَ منتقِلَةً ؛ لأنه أمرٌ توقيفيٌّ . الثالث : أنه محذوفٌ هو والعاملُ ، تقديرُه : تتلَظَّى نَزَّاعَةً . ودَلَّ عليه " لَظَى " .

الثاني من الوجهَيْن الأَوَّلَيْن : أنَّها منصوبةٌ على الاختصاصِ . وعَبَّر عنه الزمخشريُّ بالتَّهْويل ، كما عَبَّر عن وجهِ رَفْعِها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، والتقدير : أعني نَزَّاعةً ، وأخصُّها . وقد مَنَعَ المبِّردُ نصبَ " نَزَّاعة " قال : " لأنَّ الحالَ إنما يكونُ فيما يجوزُ أَنْ يكونَ وأَنْ لا يكونَ ، و " لَظى " لا تكونُ إلاَّ نَزَّاعةً ، قاله عند مكي ، ورَدَّ عليه بقولِه تعالى : { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ، { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] قال : " فالحقُّ لا يكونُ إلاّ مصدِّقاً ، وصراطُ ربِّكَ لا يكونُ إلاَّ مُسْتقيماً " . قلت : المبردُ بنى الأمرَ على الحالِ المبيِّنة ، وليس ذلك بلازم ؛ إذ قد وَرَدَتِ الحالُ مؤكِّدةً ، كما أورده مكيٌّ وإنْ كان خلافَ الأصلِ .

واللَّظى في الأصلِ : اللَّهَبُ . ونُقل عَلَماً لجهنمَ ، ولذلك مُنِعَ من الصَّرْفِ . والشَّوَى : الأطرافُ جمع شَواة كنَوى ونَواة . وقيل : الشَّوى : الأعضاءُ التي ليسَتْ بمَقْتَل ، ومنه : رماه فأَشْواه ، أي : لم يُصِبْ مَقْتَلَه . وقيل : الشَّوى : جمعُ شَواة ، وهي جِلْدَةُ الرأسِ ، وأُنْشد للأعشى :

قالت قُتَيْلَةُ مالَهُ *** قد جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ

وقيل : هو جِلْدُ الإِنسانِ . والشَّوى أيضاً : رُذالُ المالِ ، والشيءُ اليسيرُ . و " تَدْعُو " يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لإِنَّ ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو حالٌ من " لَظى " ، أو مِنْ " نَزَّاعة " على القراءَتَيْن فيها ؛ لأنها تتحمَّلُ ضميراً .