البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَا يَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ} (77)

أسر الشيء : أخفاه ، وأعلنه : أظهره .

{ أوَ لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } : هذا توبيخ من الله لهم ، أي إذا كان علم الله محيطاً بجميع أفعالهم ، وهم عالمون بذلك ، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه ، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم ، إذ هو ظاهر اللفظ .

وقيل : الذي أسرّوه الكفر ، والذي أعلنوه الإيمان .

وقيل : العداوة والصداقة .

وقيل : قولهم لشياطينهم إنا معكم ، وقولهم للمؤمنين آمنا .

وقيل : صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتغيير صفته إلى صفة أخرى ، حتى لا تقوم عليهم الحجة .

وقرأ ابن محيصن : أو لا تعلمون بالتاء ، قالوا : فيكون ذلك خطاباً للمؤمنين ، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية ، ويحتمل أن يكون خطاباً لهم ، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده ، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة ، إهمالاً لهم ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه .

وقد تقدم لنا أن مثل { أفلا تعقلون } ، { أولا يعلمون } ، أن الفاء والواو فيهما للعطف ، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت .

وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك ، فأغنى عن إعادته .

و { أن الله يعلم } : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف ، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين ، إذا قلنا : أن يعلمون متعد إلى اثنين ، كظننت ، وهذا على رأي سيبويه .

وأما الأخفش ، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد ، ويجعل الثاني محذوفاً ، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف ، والعائد على ما محذوف تقديره : يسرّونه ويعلنونه .

وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك ، أي بأن الله يعلم السر والعلانية ، أي قد علموا ذلك ، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق .

وقيل : ذلك تقريع لهم وحث على التفكر ، فيعلمون بالتفكر ذلك .

وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة ، وفيها ما يدل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لزمهم الاعتراف بالربوبية ، ودل على أن المعصية ، مع علمهم بها ، أقبح .

وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضي عن المنافقين ، مع أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك .

واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ ؟ فقال قوم : نسخ ، لأنه كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم ، تأليفاً للقلوب .

وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف .

وقال قوم : هو باق إلى الآن ، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر .

وفي قوله : { يعلم ما يسرون وما يعلنون } ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات .

/خ82