البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

الدم : معروف ، وهو محذوف اللام ، وهي ياء ، لقوله :

جرى الدميان بالخير اليقين***

أو : واو ، لقولهم : دموان ، ووزنه فعل .

وقيل : فعل ، وقد سمع مقصوراً ، قال :

غفلت ثم أتت تطلبه *** فإذا هي بعظام ودما

وقال :

ولكن على أعقابنا يقطر الدما***

في رواية من رواه كذلك ، وقد سمع مشدّد الميم ، قال الشاعر :

أهان دمّك فرغاً بعد عزته***

يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد

الديار : جمع دار ، وهو قياس في فعل الاسم ، إذا لم يكن مضاعفاً ، ولا معتل لام نحو : طلل ، وفنى .

والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو ، إذ أصله دوار ، وهو قياس ، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً لواحد معتل العين ، كثوب وحوض ودار ، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام .

فإن كان معتله ، لم يبدل نحو : واو ، قالوا : في جمع طويل : طوال وطيال .

أقرّ بالشيء : اعترف به .

{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } : الكلام على : { تسفكون } ، كالكلام على : { لا تعبدون إلا الله } من حيث الإعراب .

وقرأ الجمهور : بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء .

وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة ؛ كذلك ، إلا أنهما ضما الفاء .

وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز : بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة .

وقرأ ابن أبي إسحاق : كذلك ، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ، وظاهر قوله : { لا تسفكون دماءكم } ، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدّة تصيبكم وحنق يلحقكم .

وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه .

وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار .

وصح من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً .

وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل .

وقال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقيل معناه : لا تسفكوا دماء الناس ، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه ، وقال :

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها *** ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وقيل : معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك ، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة ، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك ، مما يزيل عصمة الدماء .

وقيل : معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض ، وإليه أشار بقوله : { لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض } ، وكان أهل دين كنفس واحدة ، قاله قتادة ، واختاره الزمخشري .

قال ابن عطية : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه ، ولا يدعه يسترق ، إلى غير ذلك من الطاعات .

والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو مع أسلافهم .

{ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه : لا يخرج بعضكم بعضاً ، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم ، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم ، أو لا تخرجون أنفسكم ، أي إخوانكم ، لأنكم كنفس واحدة ، أو لا تفسدوا ، فيكون سبباً لإخراجكم من دياركم ، كأنه يشير إلى تغريب الجاني ، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين ، فيكتب عليكم الجلاء .

أقوال ستة .

{ ثم أقررتم } : أي بالميثاق ، واعترفتم بلزومه ، أو اعترفتم بقبوله ، أو رضيتم به ، كما قال البعيث :

ولست كليبياً إذا سيم خطة *** أقر كإقرار الحليلة للبعل

{ وأنتم تشهدون } : أي تعلمون أن الله أخذه عليكم ، وأراد على قدماء بني إسرائيل ، إن كان الخطاب وارداً عليهم ، وإن كان على معاصريه ، صلى الله عليه وسلم من أبنائهم ، فمعناه : وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد ، إما بالنقل المتواتر ، وإما بما تتلونه من التوراة .

وإن كان معنى الشهادة الحضور ، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم .

وقال بعض المفسرين : ثم أقررتم عائد إلى الخلف ، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف ، لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضاً .

وقال : وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد ، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة .

وقيل : إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد ، كقولك ، فلان مقرّ على نفسه بكذا ، أشاهد عليها .

/خ86