البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف .

اللعن : الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ :

ذعرت به القطا ونفيت عنه ***مقام الذئب كالرجل اللعين

{ وقالوا قلوبنا غلف } : الضمير في قالوا عائد على اليهود ، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات ، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات .

نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية .

وقرأ الجمهور : غلف ، بإسكان اللام .

وتقدم الكلام على سكون اللام ، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف ؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف ؟ وأصله الضم ، كحمار وحمر .

قال ابن عطية : وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر .

ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو : حمر جمع حمار ، دون ضرورة .

وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وابن هرمز ، وابن محيصن ، غلف : بضم اللام ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وهو جمع غلاف ، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف ، لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر .

يقال غلفت السيف : جعلت له غلافاً .

فأما من قرأ : غلف بالإسكان ، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز .

وقال مجاهد : أي عليها غشاوة .

وقال عكرمة : عليها طابع .

وقال الزجاج : ذوات غلف ، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة .

وقيل معناه : خلقت غلفاً لا تتدبر ولا تعتبر .

وقيل : محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين .

ويحتمل عل هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة ، حتى يسكتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويحتمل أن يكون ذلك خبراً منهم بحال قلوبهم ، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها ، وكانوا يدفعوا بغير ذلك ، وأسباب الدفع كثيرة .

وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم ، أقاموا العلم مقام شيء مجسد ، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفاً له ، ليستدل بالمحسوس على المعقول .

ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم ، فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي .

ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبنا غلف ، أي مملوءة علماً ، فلا تسع شيئاً ، ولا تحتاج إلى علم غيره ، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره .

ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم ، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة ، وهي لصلابتها وقوّتها ، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها ، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره .

وقيل : المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه .

{ بل لعنهم الله بكفرهم } : بل : للإضراب ، وليس إضراباً عن اللفظ المقول ، لأنه واقع لا محالة ، فلا يضرب عنه ، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم : إن قلوبهم غلف ، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق ، مفطورة لإدراك الصواب ، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه .

ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم ، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر .

{ فقليلاً مّا يؤمنون } : انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون ، قاله قتادة .

وعلى مذهب سيبويه : انتصابه على الحال ، التقدير : فيؤمنونه ، أي الإيمان في حال قلته .

وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف ، أي فزماناً قليلاً يؤمنون ، لقوله تعالى : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون ، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل ، وهو قول معمر .

وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون ، المعنى : أي فجمعاً قليلاً يؤمنون ، أي المؤمن منهم قليل ، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة ، وملخصه : أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر ، أو للزمان ، أو للمؤمن به ، أو للفاعل .

فبالنسبة إلى المصدر : تكون القلة بحسب متعلقه ، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة .

وبالنسبة إلى الزمان : تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه ، صلى الله عليه وسلم ، قليلاً ، وهو زمان الاستفتاح ، ثم كفروا بعد ذلك .

وبالنسبة إلى المؤمن به : تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه ، إذ هم مجسمون ، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة .

وبالنسبة للفاعل : تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلاً .

وقال الواقدي : المعنى أي لا قليلاً ولا كثيراً ، يقال قل ما يفعل ، أي ما يفعل أصلاً .

وقال ابن الأنباري : إن المعنى فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً .

وقال المهدوي : مذهب قتادة أن المعنى : فقليل منهم من يؤمن ، وأنكره النحويون وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع قليل .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ، وما ذهبوا إليه من أن قليلاً يراد به النفي صحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : { فقليلاً لا يؤمنون } ، لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : قمت قليلاً ، أي قياماً قليلاً .

ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلاً منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفعل ، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية .

وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم : أقل رجل يقول ذلك ، وقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد ، وقليل من الرجال يقول ذلك ، وقليلة من النساء تقول ذلك .

وإذا تقرر هذا ، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح .

وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة ، وإنكار النحويين ذلك ، وقولهم : لو كان كذلك للزم رفع قليل .

فقول قتادة صحيح ، ولا يلزم ما ذكره النحويون ، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك .

وإنما انتصاب قليلاً عنده على الحال من الضمير في يؤمنون ، والمعنى عنده : فيؤمنون قوماً قليلاً ، أي في حالة قلة .

وهذا معناه : فقليل منهم من يؤمن .

وما في قوله : ما يؤمنون ، زائدة مؤكدة ، دخلت بين المعمول والعامل ، نظير قولهم : رويد ما الشعر ، وخرج ما أنف خاطب بدم .

ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية ، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر .

والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول ، وهو أن يكون المعنى : فإيماناً قليلاً يؤمنون ، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان ، وعلى الهيئة ، وعلى المفعول ، وعلى الفاعل ، ولموافقته ظاهر قوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً } .

وأما قول العرب : مررنا بأرض قليلاً ما تنبت ، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً ، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية ، والتقدير : قليلاً إنباتها ، أي لا تنبت شيئاً ، وليست ما زائدة ، وقليلاً نعت لمصدر محذوف ، تقدير الكلام : تنبت قليلاً ، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض ، لأن قولك : تنبت قليلاً ، لا يدل على نفي الإنبات رأساً ، وكذلك لو قلنا : ضربت ضرباً قليلاً ، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً .

/خ96