البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

تظاهرون : تتعاونون ، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه ، والظهر : المعين .

الإثم : الذنب ، جمعه آثام .

الأسرى : جمع أسير ، وفعلى مقيس في فعيل ، بمعنى : ممات ، أو موجع ، كقتيل وجريح .

وأما الأسارى فقيل : جمع أسير ، وسمع الأسارى بفتح الهمزة ، وليست بالعالية .

وقيل : أسارى جمع أسرى ، فيكون جمع الجمع ، قاله المفضل .

وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى : من في اليد ، والأسارى : من في الوثاق ، والأسير : هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة .

الفداء : يكسر أوله فيمد ، كما قال النابغة :

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمروا من مال ومن ولد

ويقصر ، قال :

فدا لك من رب طريفي وتالدي***

وإذا فتح أوّله قصر ، يقال : قم فدا لك أبي ، قاله الجوهري .

ومعنى فدى فلان فلاناً : أي أعطى عوضه .

المحرّم : اسم مفعول من حرم ، وهو راجع إلى معنى المنع .

تقول : حرمه يحرمه ، إذا منعه .

الجزاء : المقابلة ، ويطلق في الخير والشر .

الخزي : الهوان .

قال الجوهري : خزي ، بالكسر ، يخزى خزياً .

وقال ابن السكيت : معنى خزي : وقع في بلية ، وأخزاه الله أيضاً ، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية ، إذا استحيا ، وهو خزيان ، وقوم خزايا ، أو امرأة خزيا .

الدنيا : تأنيث الأدنى ، ويرجع إلى الدنو ، ويرجع إلى الدنو ، بمعنى القرب .

والألف فيه للتأنيث ، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر ، نحو قوله :

في سعي دنيا طالما قد مدّت***

والدنيا تارة تستعمل صفة ، وتارة تستعمل استعمال الأسماء ، فإذا كانت صفة ، فالياء مبدلة من واو ، إذ هي مشتقة من الدنو ، وذلك نحو : العليا .

ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } فأما القصوى والحلوى فشاذ .

وإذا استعملت استعمال الأسماء ، فكذلك .

وقال أبو بكر بن السرّاج : في ( المقصور والممدود ) له الدنيا مؤنثة مقصورة ، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة ، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى ، مثل : شروى ، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء ، لأنهم يستثقلون الضمة والواو .

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } : هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان ، بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم .

واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة ، فالمختار أن أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبر ، وتقتلون حال .

وقد قالت العرب : ها أنت ذا قائماً ، وها أنا ذا قائماً .

وقالت أيضاً : هذا أنا قائماً ، وها هو ذا قائماً ، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ ، وكأنه قال : أنت الحاضر ، وأنا الحاضر ، وهو الحاضر .

والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال .

ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال ، فيما قلناه من قولهم : ها أنت ذا قائماً ونحوه .

قال الزمخشري : والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين ، تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به .

وقوله : { تقتلون } بيان لقوله : { ثم أنتم هؤلاء } .

انتهى كلامه .

والظاهر أن المشار إليه بقوله : { ثم أنتم هؤلاء } ، هم المخاطبون أوّلاً ، فليسوا قوماً آخرين .

ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ولا في ها أنتم أولاء ؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير .

قال ابن عطية : وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد : شيخنا ، هؤلاء : رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدّم ، وتقتلون حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود ، فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول : هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه ، لا الإخبار بأن هذا هو زيد .

انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه ، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، من أهل بلدنا غرناظة ، يعرف بابن الباذش ، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد ، مؤلف ( كتاب الإقناع في القراءات ) ، وله اختيارات في النحو ، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي ، وعلق عنه في النحو على ( كتاب الجمل والإيضاح ) ومسائل من كتاب سيبويه .

توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة .

ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا .

والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل .

قالوا : وهو حال منه ، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها .

وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، فيطالع هناك ، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء ، ونقل جوازه عن الفراء ، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره ، جنوحاً إلى مذهب الفراء ، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم .

وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء .

والفصل بينهما بالنداء جائز ، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية ، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر .

وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة ، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة ، من ذلك قول رجل من طيء :

إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم *** هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً

وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ ، ويقتلون الخبر ، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين ، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون ، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني .

وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات ، ولا بأسماء الإشارة .

والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو : اللهم اغفر لنا ، أيتها العصابة ، أو معرّفاً بالألف واللام نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وقد يكون علماً ، كما أنشدوا :

بنا تميماً يكشف الضباب .

اه***

.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم ، كما مثلناه .

وقد جاء بعد ضمير مخاطب ، كقولهم : بك الله نرجو الفضل .

وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي ، وهو خبر عن أنتم ، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء ، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين .

وأجاز ذلك الكوفيون ، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو .

وقرأ الجمهور : يقتلون ، من قتل مخففاً .

وقرأ الحسن : تقتلون من قتل مشدّداً .

هكذا في بعض التفاسير ، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك ، قال والزهري والحسن : تقتلون أنبياء الله ، من قتل يعني مشدّداً ، والله أعلم بصواب ذلك .

{ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } : هذا نزل في بني قينقاع ، وبني قريظة ، والنضير من اليهود .

كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير ، والأوس والخزرج إخوان ، والنضير وقريظة أيضاً أخوان ، ثم افترقوا .

فصارت النضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس .

فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب ، فيفدون أسرارهم ، فعيرهم الله بذلك ، قاله المهدوي .

قال الزمخشري : فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين ، جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا .

{ تظاهرون عليهم بالإثم } : قرأ بتخفيف الظاء ، عاصم وحمزة والكسائي ، وأصله : تتظاهرون ، فحذف التاء ، وهي عندنا الثانية لا الأولى ، خلافاً لهشام ، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة ، الدالة في مثل هذا على الخطاب ، وكثيراً جاء في القرآن حذف التاء .

وقال :

تعاطسون جميعاً حول داركم *** فكلكم يا بني حمدان مزكوم

يريد : تتعاطسون .

وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء ، أي بإدغام الظاء في التاء .

وقرأ أبو حيوة : تظاهرون ، بضم التاء وكسر الهاء .

وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما : تظهرون ، بفتح التاء ، والظاء والهاء مشددين دون ألف ، ورويت عن أبي عمرو .

وقرأ بعضهم : تتظاهرون على الأصل .

فهذه خمس قراءات ، ومعناها كلها التعاون والتناصر .

وروى أبو العالية قال : كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوماً أخرجوهم من ديارهم .

عليهم بالإثم : فيه قولان : أحدهما : أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم ، الثاني : أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب .

وفي حديث النوّاس : الإثم ما حاك في صدرك .

وقيل : المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم ، وهذا من إطلاق السبب على مسببه ، ولذلك سميت الخمر إثماً ، كما قال :

شربت الإثم حتى ضل عقلي***

{ والعدوان } : هو تجاوز الحدّ في الظلم .

{ وإن يأتوكم أسرى } : قراءة الجمهور بوزن فعالى ، وحمزة بوزن فعلى .

{ تفادوهم } : قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي ، وقرأ الباقون : من فدى .

قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء ، ومعنى تفادوهم : تفدوهم ، إذ المفاعلة تكون من اثنين ، ومن واحد .

ففاعل بمعنى : فعل المجرد ، وهو أحد معانيها .

وقيل : معنى فادى : بادل أسيراً بأسير ، ومعنى فدى : دفع الفداء ، ويشهد للأوّل قول العباس : فاديت نفسي وفاديت عقيلاً .

ومعلوم أنه ما بادل أسيراً بأسير .

وقيل : معنى تفدوهم بالصلح ، وتفادوهم بالعنف .

وقيل تفادوهم : تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ، ومنه قوله :

قفي فادي أسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وتفدوهم : تعطوا فديتهم .

وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة ، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئاً .

وفاديت نفسي : أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً .

وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين ، الثاني بحرف جر ، وهو هنا به محذوف .

{ وهو محرّم عليكم إخراجكم } : تقدّمت أربعة أشياء : قتل النفس ، والإخراج من الديار ، والتظاهر ، والمفاداة ، وهي محرّمة .

واختص هذا القسم بتأكيد التحريم ، وإن كانت كلها محرّمة ، لما في الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت ، وذلك بخلاف القتل ، لأن القتل ، وإن كان من حيث هو هدم البنية ، أعظم ، لكن فيه انقطاع الشر ، وبخلاف المفاداة بها ، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر ، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ، ما وقعوا في قيد الأسر .

وقد يكون أيضاً مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم ، ويكون التقدير : تقتلون أنفسكم ، وهو محرّم عليكم ، وكذا باقيها .

وارتفاع هو على الابتداء ، وهو إما ضمير الشأن ، والجملة بعده خبر عنه ، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً ، وفيه ضمير عائد على الإخراج ، إذ النية به التأخير .

ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذاكان متحملاً ضميراً مرفوعاً .

فلا يجيزون : قائم زيد ، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً ، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم ، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله ، وتبعهم على هذا المهدوي .

ولا يجيز هذا الوجه البصريون ، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها ، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو ، وإخراجهم مرفوعاً به ، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة .

وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا .

وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ ، ليس ضمير الشأن ، بل هو عائد على الإخراج ، ومحرّم خبر عنه ، وإخراجهم بدل .

وهذا فيه خلاف .

منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل ، ومنهم من منع .

وأجازه الكسائي ، وفي بعض النقول .

وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً ، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل ، وقد تقدّم مع الخبر .

والتقدير : وإخراجهم هو محرّم عليكم ، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ ، أقدم معه الفصل .

قال الفراء : لأن الواو ها هنا تطلب الاسم ، وكل موضع تطلب فيه الاسم ، فالعماد فيه جائز .

ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين ، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم : أحدهما : وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة ، إذ التقدير : وإخراجهم هو محرّم ، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة .

الثاني : أن فيه تقديم الفصل ، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر ، أو بين ما هما أصله ، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو .

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد ، وهو أنه قال : قيل في هو إنه ضمير الأمر ، تقديره : والأمر محرّم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو .

انتهى ما نقله في هذا القول ، وهذا خطأ من وجهين .

أحدهما : أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد ، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي .

أما البصري ، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة ، وأما الكوفي ، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد ، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى ، نحو قولك : ظننته قائماً الزيدان .

والثاني : أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر ، وضمير الأمر لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد .

قال ابن عطية : وقيل هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفي ، وليست هنا بالتي هي عماد ، ومحرم على هذا ابتداء ، وإخراجهم خبر .

انتهى ما نقله في هذا القول .

والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر مع المبتدأ ، فإعراب محرم عندهم خبر مقدم ، وإخراجهم مبتدأ ، وهو المناسب للقواعد ، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة ، ولا مسوغ لها ، ويكون الخبر معرفة ، بل المستقر في لسانهم عكس هذا ، إلا إن كان يرد في شعر ، فيسمع ولا يقاس عليه .

قال ابن عطية : وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر .

انتهى ما نقله في هذا القول .

وهذا القول ضعيف جداً ، إذ لا موجب لتقدّم الضمير ، ولا لبروزه بعد استتاره ، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير ، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً ، وإخراجهم مبتدأ ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير ، إلا إذا رفع الظاهر .

ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر ، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم ، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه ، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً .

قال ابن عطية : وقيل هو ضمير الإخراج ، تقديره : وإخراجهم محرم عليكم .

انتهى ما نقله في هذا القول ، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم ، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره ، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر ، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير .

وقد تقدم أن في ذلك خلافاً ، منهم من أجاز ومنهم من منع .

{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } : هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار .

ولم يذمّهم على الفداء ، بل على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب ، وتركوا بعضاً .

وتكون المناقضة آكد في الذمّ ، ولا يقال الإخراج معصية .

فلم سماها كفراً ؟ لأنا نقول : لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب ، مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه .

والبعض الذي آمنوا به ، إن كان المراد بالكتاب التوراة ، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها ، وفداء الأسير من جملته .

والبعض الذي كفروا به : هو قتل بعضهم بعضاً ، وإخراج بعضهم من ديارهم ، والمظاهرة بالإثم والعدوان ، من جملة ما كفروا به من التوراة .

وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض ، تفادون أسرى قبيلتكم ، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم .

وقيل : إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب ، ولا يفادي من وقع عليه الحرب .

قال : فقال ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ .

وقال مجاهد : معناه إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك .

وقيل : المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحجة في أمرهما سواء ، فجروا مجرى سلفهم ، أن يؤمنوا ببعض ، ويكفروا ببعض .

قالوا : ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة ، أي المفروض ، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى ، والذي كفروا به باقي الأربعة .

{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } : الجزاء يطلق في الخير والشر .

قال : { وجزاهم بما صبروا } ، وقال : { فجزاؤه جهنم } والخزي هنا : الفضيحة ، والعقوبة ، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر ، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا ، وأذرعات ، أو غلبة العدوّ ، أقوال خمسة .

ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص .

وإلاّ خزي : استثناء مفرّغ ، وهو خبر المبتدأ .

ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة ، وتفصيل وذلك : أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ ، فإما أن يكون هو الأوّل ، أو منزلاً منزلته ، أو وصفاً ، إن كان الأول في المعنى ، أو منزلاً منزلته ، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور .

وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل ، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب ، ومنعه البصريون .

ونقل عن يونس : إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان ، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس ، قال : لا خلاف بين النحويين في قولك : ما زيد إلا أخوك ، إنه لا يجوز إلا بالرفع .

قال : فإن قلت ما أنت إلا لحيتك ، فالبصريون يرفعون ، والمعنى عندهم : ما فيك إلا لحيتك ، وكذا : ما أنت إلا عيناك .

وأجاز في هذا الكوفيون النصب ، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر ، إلا أن يعرف المعنى ، فتضمر ناصباً نحو : ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى ، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً .

{ ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب } : يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد ، ويدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار .

ومعنى يردّون : يصيرون ، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب ، أو يراد بالردّ : الرجوع إلى شيء كانوا فيه ، كما قال تعالى : { فرددناه إلى أمه } وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضاً ، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب .

وقرأ الجمهور : يردّون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : { من يفعل } .

ويحتمل أن يكون التفاتاً ، فيكون راجعاً إلى قوله : { أفتؤمنون } ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة .

وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردّون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : { أفتؤمنون } .

ويحتمل أن يكون التفاتاً بالنسبة إلى قوله { من يفعل ذلك } ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب .

وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوال خمسة .

{ وما الله بغافل عما تعملون } : تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل { أفتطمعون } .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق .

فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطباً في الآية .

قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم .

فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يأمّة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص .

/خ86