تظاهرون : تتعاونون ، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه ، والظهر : المعين .
الأسرى : جمع أسير ، وفعلى مقيس في فعيل ، بمعنى : ممات ، أو موجع ، كقتيل وجريح .
وأما الأسارى فقيل : جمع أسير ، وسمع الأسارى بفتح الهمزة ، وليست بالعالية .
وقيل : أسارى جمع أسرى ، فيكون جمع الجمع ، قاله المفضل .
وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى : من في اليد ، والأسارى : من في الوثاق ، والأسير : هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة .
الفداء : يكسر أوله فيمد ، كما قال النابغة :
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمروا من مال ومن ولد
وإذا فتح أوّله قصر ، يقال : قم فدا لك أبي ، قاله الجوهري .
ومعنى فدى فلان فلاناً : أي أعطى عوضه .
المحرّم : اسم مفعول من حرم ، وهو راجع إلى معنى المنع .
تقول : حرمه يحرمه ، إذا منعه .
الجزاء : المقابلة ، ويطلق في الخير والشر .
قال الجوهري : خزي ، بالكسر ، يخزى خزياً .
وقال ابن السكيت : معنى خزي : وقع في بلية ، وأخزاه الله أيضاً ، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية ، إذا استحيا ، وهو خزيان ، وقوم خزايا ، أو امرأة خزيا .
الدنيا : تأنيث الأدنى ، ويرجع إلى الدنو ، ويرجع إلى الدنو ، بمعنى القرب .
والألف فيه للتأنيث ، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر ، نحو قوله :
والدنيا تارة تستعمل صفة ، وتارة تستعمل استعمال الأسماء ، فإذا كانت صفة ، فالياء مبدلة من واو ، إذ هي مشتقة من الدنو ، وذلك نحو : العليا .
ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } فأما القصوى والحلوى فشاذ .
وإذا استعملت استعمال الأسماء ، فكذلك .
وقال أبو بكر بن السرّاج : في ( المقصور والممدود ) له الدنيا مؤنثة مقصورة ، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة ، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى ، مثل : شروى ، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء ، لأنهم يستثقلون الضمة والواو .
{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } : هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان ، بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم .
واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة ، فالمختار أن أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبر ، وتقتلون حال .
وقد قالت العرب : ها أنت ذا قائماً ، وها أنا ذا قائماً .
وقالت أيضاً : هذا أنا قائماً ، وها هو ذا قائماً ، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ ، وكأنه قال : أنت الحاضر ، وأنا الحاضر ، وهو الحاضر .
والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال .
ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال ، فيما قلناه من قولهم : ها أنت ذا قائماً ونحوه .
قال الزمخشري : والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين ، تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به .
وقوله : { تقتلون } بيان لقوله : { ثم أنتم هؤلاء } .
والظاهر أن المشار إليه بقوله : { ثم أنتم هؤلاء } ، هم المخاطبون أوّلاً ، فليسوا قوماً آخرين .
ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ولا في ها أنتم أولاء ؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير .
قال ابن عطية : وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد : شيخنا ، هؤلاء : رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدّم ، وتقتلون حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود ، فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول : هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه ، لا الإخبار بأن هذا هو زيد .
انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه ، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، من أهل بلدنا غرناظة ، يعرف بابن الباذش ، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد ، مؤلف ( كتاب الإقناع في القراءات ) ، وله اختيارات في النحو ، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي ، وعلق عنه في النحو على ( كتاب الجمل والإيضاح ) ومسائل من كتاب سيبويه .
توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة .
ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا .
والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل .
قالوا : وهو حال منه ، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها .
وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، فيطالع هناك ، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء ، ونقل جوازه عن الفراء ، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره ، جنوحاً إلى مذهب الفراء ، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم .
وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء .
والفصل بينهما بالنداء جائز ، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية ، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر .
وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة ، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة ، من ذلك قول رجل من طيء :
إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم *** هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ ، ويقتلون الخبر ، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين ، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون ، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني .
وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات ، ولا بأسماء الإشارة .
والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو : اللهم اغفر لنا ، أيتها العصابة ، أو معرّفاً بالألف واللام نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وقد يكون علماً ، كما أنشدوا :
وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم ، كما مثلناه .
وقد جاء بعد ضمير مخاطب ، كقولهم : بك الله نرجو الفضل .
وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي ، وهو خبر عن أنتم ، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء ، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين .
وأجاز ذلك الكوفيون ، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو .
وقرأ الجمهور : يقتلون ، من قتل مخففاً .
وقرأ الحسن : تقتلون من قتل مشدّداً .
هكذا في بعض التفاسير ، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك ، قال والزهري والحسن : تقتلون أنبياء الله ، من قتل يعني مشدّداً ، والله أعلم بصواب ذلك .
{ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } : هذا نزل في بني قينقاع ، وبني قريظة ، والنضير من اليهود .
كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير ، والأوس والخزرج إخوان ، والنضير وقريظة أيضاً أخوان ، ثم افترقوا .
فصارت النضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس .
فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب ، فيفدون أسرارهم ، فعيرهم الله بذلك ، قاله المهدوي .
قال الزمخشري : فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين ، جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا .
{ تظاهرون عليهم بالإثم } : قرأ بتخفيف الظاء ، عاصم وحمزة والكسائي ، وأصله : تتظاهرون ، فحذف التاء ، وهي عندنا الثانية لا الأولى ، خلافاً لهشام ، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة ، الدالة في مثل هذا على الخطاب ، وكثيراً جاء في القرآن حذف التاء .
تعاطسون جميعاً حول داركم *** فكلكم يا بني حمدان مزكوم
وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء ، أي بإدغام الظاء في التاء .
وقرأ أبو حيوة : تظاهرون ، بضم التاء وكسر الهاء .
وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما : تظهرون ، بفتح التاء ، والظاء والهاء مشددين دون ألف ، ورويت عن أبي عمرو .
وقرأ بعضهم : تتظاهرون على الأصل .
فهذه خمس قراءات ، ومعناها كلها التعاون والتناصر .
وروى أبو العالية قال : كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوماً أخرجوهم من ديارهم .
عليهم بالإثم : فيه قولان : أحدهما : أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم ، الثاني : أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب .
وفي حديث النوّاس : الإثم ما حاك في صدرك .
وقيل : المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم ، وهذا من إطلاق السبب على مسببه ، ولذلك سميت الخمر إثماً ، كما قال :
{ والعدوان } : هو تجاوز الحدّ في الظلم .
{ وإن يأتوكم أسرى } : قراءة الجمهور بوزن فعالى ، وحمزة بوزن فعلى .
{ تفادوهم } : قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي ، وقرأ الباقون : من فدى .
قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء ، ومعنى تفادوهم : تفدوهم ، إذ المفاعلة تكون من اثنين ، ومن واحد .
ففاعل بمعنى : فعل المجرد ، وهو أحد معانيها .
وقيل : معنى فادى : بادل أسيراً بأسير ، ومعنى فدى : دفع الفداء ، ويشهد للأوّل قول العباس : فاديت نفسي وفاديت عقيلاً .
ومعلوم أنه ما بادل أسيراً بأسير .
وقيل : معنى تفدوهم بالصلح ، وتفادوهم بالعنف .
وقيل تفادوهم : تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ، ومنه قوله :
قفي فادي أسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعا
وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة ، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئاً .
وفاديت نفسي : أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً .
وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين ، الثاني بحرف جر ، وهو هنا به محذوف .
{ وهو محرّم عليكم إخراجكم } : تقدّمت أربعة أشياء : قتل النفس ، والإخراج من الديار ، والتظاهر ، والمفاداة ، وهي محرّمة .
واختص هذا القسم بتأكيد التحريم ، وإن كانت كلها محرّمة ، لما في الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت ، وذلك بخلاف القتل ، لأن القتل ، وإن كان من حيث هو هدم البنية ، أعظم ، لكن فيه انقطاع الشر ، وبخلاف المفاداة بها ، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر ، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ، ما وقعوا في قيد الأسر .
وقد يكون أيضاً مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم ، ويكون التقدير : تقتلون أنفسكم ، وهو محرّم عليكم ، وكذا باقيها .
وارتفاع هو على الابتداء ، وهو إما ضمير الشأن ، والجملة بعده خبر عنه ، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً ، وفيه ضمير عائد على الإخراج ، إذ النية به التأخير .
ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذاكان متحملاً ضميراً مرفوعاً .
فلا يجيزون : قائم زيد ، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً ، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم ، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله ، وتبعهم على هذا المهدوي .
ولا يجيز هذا الوجه البصريون ، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها ، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو ، وإخراجهم مرفوعاً به ، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة .
وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا .
وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ ، ليس ضمير الشأن ، بل هو عائد على الإخراج ، ومحرّم خبر عنه ، وإخراجهم بدل .
منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل ، ومنهم من منع .
وأجازه الكسائي ، وفي بعض النقول .
وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً ، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل ، وقد تقدّم مع الخبر .
والتقدير : وإخراجهم هو محرّم عليكم ، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ ، أقدم معه الفصل .
قال الفراء : لأن الواو ها هنا تطلب الاسم ، وكل موضع تطلب فيه الاسم ، فالعماد فيه جائز .
ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين ، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم : أحدهما : وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة ، إذ التقدير : وإخراجهم هو محرّم ، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة .
الثاني : أن فيه تقديم الفصل ، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر ، أو بين ما هما أصله ، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو .
ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد ، وهو أنه قال : قيل في هو إنه ضمير الأمر ، تقديره : والأمر محرّم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو .
انتهى ما نقله في هذا القول ، وهذا خطأ من وجهين .
أحدهما : أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد ، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي .
أما البصري ، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة ، وأما الكوفي ، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد ، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى ، نحو قولك : ظننته قائماً الزيدان .
والثاني : أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر ، وضمير الأمر لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد .
قال ابن عطية : وقيل هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفي ، وليست هنا بالتي هي عماد ، ومحرم على هذا ابتداء ، وإخراجهم خبر .
والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر مع المبتدأ ، فإعراب محرم عندهم خبر مقدم ، وإخراجهم مبتدأ ، وهو المناسب للقواعد ، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة ، ولا مسوغ لها ، ويكون الخبر معرفة ، بل المستقر في لسانهم عكس هذا ، إلا إن كان يرد في شعر ، فيسمع ولا يقاس عليه .
قال ابن عطية : وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر .
وهذا القول ضعيف جداً ، إذ لا موجب لتقدّم الضمير ، ولا لبروزه بعد استتاره ، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير ، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً ، وإخراجهم مبتدأ ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير ، إلا إذا رفع الظاهر .
ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر ، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم ، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه ، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً .
قال ابن عطية : وقيل هو ضمير الإخراج ، تقديره : وإخراجهم محرم عليكم .
انتهى ما نقله في هذا القول ، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم ، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره ، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر ، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير .
وقد تقدم أن في ذلك خلافاً ، منهم من أجاز ومنهم من منع .
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } : هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار .
ولم يذمّهم على الفداء ، بل على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب ، وتركوا بعضاً .
وتكون المناقضة آكد في الذمّ ، ولا يقال الإخراج معصية .
فلم سماها كفراً ؟ لأنا نقول : لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب ، مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه .
والبعض الذي آمنوا به ، إن كان المراد بالكتاب التوراة ، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها ، وفداء الأسير من جملته .
والبعض الذي كفروا به : هو قتل بعضهم بعضاً ، وإخراج بعضهم من ديارهم ، والمظاهرة بالإثم والعدوان ، من جملة ما كفروا به من التوراة .
وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض ، تفادون أسرى قبيلتكم ، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم .
وقيل : إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب ، ولا يفادي من وقع عليه الحرب .
قال : فقال ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ .
وقال مجاهد : معناه إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك .
وقيل : المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحجة في أمرهما سواء ، فجروا مجرى سلفهم ، أن يؤمنوا ببعض ، ويكفروا ببعض .
قالوا : ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة ، أي المفروض ، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى ، والذي كفروا به باقي الأربعة .
{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } : الجزاء يطلق في الخير والشر .
قال : { وجزاهم بما صبروا } ، وقال : { فجزاؤه جهنم } والخزي هنا : الفضيحة ، والعقوبة ، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر ، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا ، وأذرعات ، أو غلبة العدوّ ، أقوال خمسة .
ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص .
وإلاّ خزي : استثناء مفرّغ ، وهو خبر المبتدأ .
ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة ، وتفصيل وذلك : أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ ، فإما أن يكون هو الأوّل ، أو منزلاً منزلته ، أو وصفاً ، إن كان الأول في المعنى ، أو منزلاً منزلته ، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور .
وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل ، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب ، ومنعه البصريون .
ونقل عن يونس : إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان ، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس ، قال : لا خلاف بين النحويين في قولك : ما زيد إلا أخوك ، إنه لا يجوز إلا بالرفع .
قال : فإن قلت ما أنت إلا لحيتك ، فالبصريون يرفعون ، والمعنى عندهم : ما فيك إلا لحيتك ، وكذا : ما أنت إلا عيناك .
وأجاز في هذا الكوفيون النصب ، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر ، إلا أن يعرف المعنى ، فتضمر ناصباً نحو : ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى ، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً .
{ ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب } : يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد ، ويدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار .
ومعنى يردّون : يصيرون ، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب ، أو يراد بالردّ : الرجوع إلى شيء كانوا فيه ، كما قال تعالى : { فرددناه إلى أمه } وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضاً ، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب .
وقرأ الجمهور : يردّون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : { من يفعل } .
ويحتمل أن يكون التفاتاً ، فيكون راجعاً إلى قوله : { أفتؤمنون } ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة .
وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردّون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : { أفتؤمنون } .
ويحتمل أن يكون التفاتاً بالنسبة إلى قوله { من يفعل ذلك } ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب .
وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوال خمسة .
{ وما الله بغافل عما تعملون } : تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل { أفتطمعون } .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق .
فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطباً في الآية .
قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يأمّة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص .