البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (89)

المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه الجهل ، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم .

{ ولما جاءهم } : الضمير عائد على اليهود ، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم ، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيراً ، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم .

{ كتاب } : هو القرآن ، وإسناد المجيء إليه مجاز .

{ من عند الله } : في موضع الصفة ، ووصفه بمن عند الله جدير أن يقبل ، ويتبع ما فيه ، ويعمل بمضمونه ، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم .

{ مصدّق } : صفة ثانية ، وقدّمت الأولى عليها ، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله .

لا يقال : إنه يحتمل أن يكون { من عند الله } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما .

وفي مصحف أبيّ مصدقاً ، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب ، وإن كان نكرة .

وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط ، فقد تخصصت بالصفة ، فقربت من المعرفة .

{ لما معهم } : هو التوراة والإنجيل ، وتصديقه إما بكونهما من عند الله ، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته .

{ وكانوا } : يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم ، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون .

ويحتمل أن يكون جملة حالية ، أي وقد كانوا ، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون .

وظاهر كلام الزمخشري أن قوله : وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما ، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون ، فدل على أن قوله : وكانوا ، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : ولما .

{ من قبل } : أي من قبل المجيء ، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة .

{ يستفتحون } : أي يستحكمون ، أو يستعلمون ، أو يستنصرون ، أقوال ثلاثة .

يقولون ، إذا دهمهم العدو : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد نعته في التوراة .

واختلفوا في جواب ولما الأولى ، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، واختاره الزمخشري وقدره نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه ، وقدره غيره : كفروا ، فحذف لدلالة كفروا به عليه ، والمعنى قريب في ذلك .

وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله : { فلما جاءهم } جواب لما الأولى ، وكفروا جواب لقوله : فلما جاءهم .

وهو عنده نظير قوله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف } قال : ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها .

وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو : كفروا به ، وكرر لما لطول الكلام ، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له .

وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد .

وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم ، لما جاء زيد ، فلما جاء خالد أقبل جعفر ، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته ، ولا حجة في هذا المختلف فيه ، فالأولى أن كون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وأن يكون التقدير : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم } كذبوه ، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية ، بل بادروا إلى تكذيبه .

ثم قال تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون } ، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث قد قرب وقت بعثه ، فكانوا يخبرون بذلك .

{ فلما جاءهم ما عرفوا } : وما سبق لهم تعريفه للمشركين .

{ كفروا به } : ستروه وجحدوه ، وهذا أبلغ في ذمهم ، إذ يكون الشيء المعروف لهم ، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده ، قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } وقال أبو القاسم الراغب : ما ملخصه الاستفتاح ، طلب الفتح ، وهو ضربان : إلهي ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب ، ومنه { إنا فتحنا لك } فعسى أن يأتي بالفتح .

ودنيوي ، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية ، ومنه { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } فمعنى يستفتحون : أي يعلمون خبره من الناس مرّة ، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة .

وقيل : يطلبون من الله بذكره الظفر .

وقيل : كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على عبدة الأوثان .

وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح . انتهى .

وظاهر قوله : ما عرفوا أنه الكتاب ، لأنه أتى بلفظ ما ، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، ويجوز أن يكون المعنى : ما عرفوه من الحق ، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه ، وما تضمنه .

{ فلعنة الله على الكافرين } : لما كان الكتاب جائياً من عند الله إليهم ، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه ، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به .

قابلهم الله بالاستهانة والطرد ، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة ، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة .

{ قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله } { ومن يعلن الله فلن تجد له نصيراً } ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم ، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم ، فجللهم بها ، ثم نبه على علة اللعنة وسببها ، وهي الكفر ، كما قال قبل : { بل لعنهم الله بكفرهم } ، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى ، فتكون الألف واللام للعهد ، أو تكون للعموم ، فيكون هؤلاء فرداً من أفراد العموم .

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون للجنس ، ويكون فيه دخولاً أولياً .

ونعني بالجنس العموم ، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً ليس بشيء ، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض ، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد ، فهي دلالة متساوية .

وإذا كانت دلالة متساوية ، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء .

/خ96