تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (88)

لما ذكر تعالى ذم المنافقين ، بيَّن ثناء المؤمنين ، وما لهم في آخرتهم ، فقال : { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا } إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم .

وقوله : { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } أي : في الدار الآخرة ، في جنات الفردوس والدرجات العلى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (88)

افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأنّ مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلاً وتفريعاً . فلمّا كان قعود المنافقين عن الجهاد مسبباً على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون على الضدّ من ذلك . وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأنّ تعلّقهم به واتّباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرِهم ، فقيل : { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا } .

وقوله : { بأموالهم وأنفسهم } مقابل قوله : { استأذنك أولُوا الطَّوْل منهم } [ التوبة : 86 ] .

وقوله : { وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون } مقابل قوله : { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } [ التوبة : 87 ] كما تقدّم .

وفي حرفِ الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسولَ كقوله : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] .

وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالهم وأنفسكم } [ التوبة : 41 ] .

وفي قوله : { والذين آمنوا معه } تعريض بأنّ الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين .

و { معه } في موضع الحال من { الذين } لتدلّ على أنّهم أتباع له في كلّ حال وفي كلّ أمر ، فإيمانهم معه لأنّهم آمنوا به عند دعوته إيّاهم ، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه ، وفيه إشارة إلى أنّ الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته .

وعُطفت جملة : { وأولئك لهم الخيرات } على جملة { جاهدوا } ولم تُفصل مع جواز الفصل ليُدَلّ بالعطف على أنّها خبر عن الذين آمنوا ، أي على أنّها من أوصافهم وأحوالهم لأنّ تلك أدلّ على تمكّن مضمونها فيهم من أن يُؤتى بها مستأنفة كأنّها إخبار مستأنف .

والإتيان باسم الإشارة لإفادة أنّ استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم .

والخيرات : جمع خَيْر على غير قياس . فهو ممّا جاء عَلى صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامَته مثل سرادقات وحمَّامات .

وجعله كثير من اللغويين جمع ( خَيْرَة ) بتخفيف الياء مُخفّف ( خَيِّرة ) المشدّد الياء التي هي أنثى ( خَيِّر ) ، أو هي مؤنّث ( خَيْر ) المخفّف الياء الذي هو بمعنى أخْير . وإنّما أنّثوا وصف المرأة منه لأنّهم لم يريدوا به التفضيل ، وعلى هذا كلّه يكون خيرات هنا مؤولاً بالخصال الخيّرة ، وكلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر . والمراد منافع الدنيا والآخرة . فاللام فيه للاستغراق . والقول في { وأولئك هم المفلحون كالقول في نظيره في أول سورة البقرة .