تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } قيل{[17705]} لغروبها . قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، وابن زيد .

وقال هُشَيْم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن عباس : " دلوكها " : زوالها . ورواه نافع ، عن ابن عمر . ورواه مالك في تفسيره ، عن الزهري ، عن ابن عمر . وقاله أبو بَرْزَة الأسلمي وهو رواية أيضًا عن ابن مسعود . ومجاهد . وبه قال الحسن ، والضحاك ، وأبو جعفر الباقر ، وقتادة . واختاره ابن جرير ، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد ، عن الحكم بن بشير ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن ابن أبي ليلى ، [ عن رجل ]{[17706]} ، عن جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت الشمس " {[17707]} .

ثم رواه عن سهل بن بكار ، عن أبي عَوَانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي ، عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه . فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله : { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وهو : ظلامه ، وقيل : غروب الشمس ، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقوله [ تعالى ]{[17708]} : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } يعني : صلاة الفجر .

وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا من أفعاله وأقواله{[17709]} بتفاصيل هذه الأوقات ، على ما عليه عمل أهل الإسلام{[17710]} اليوم ، مما تلقوه خلفًا عن سلف ، وقرنًا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه ، ولله الحمد .

{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود - وعن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه{[17711]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال : " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " {[17712]} .

وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة - وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " . ويقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }{[17713]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وحدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال : " تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار " .

ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، ثلاثتهم عن عُبَيْد بن أسباط بن محمد ، عن أبيه ، به{[17714]} وقال الترمذي : حسن صحيح .

وفي لفظ في الصحيحين ، من طريق مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار{[17715]} ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فَيَعْرُجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " {[17716]} وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان{[17717]} في صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء .

وكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، ومجاهد ، وقتادة ، وغير واحد في تفسير هذه الآية .

وأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا - من حديث الليث بن سعد ، عن زيادة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عُبيد ، عن أبي الدرداء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول : " من يستغفرني أغفر له ، من يسألني أعطه{[17718]} ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر " . فلذلك يقول : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } فيشهده الله ، وملائكة الليل ، وملائكة النهار{[17719]} - فإنه تفرد به زيادة ، وله بهذا حديث في سنن أبي داود{[17720]} .


[17705]:في ت: "قبل".
[17706]:زيادة من ف، أ، والطبري.
[17707]:تفسير الطبري (15/93).
[17708]:زيادة من ت.
[17709]:في ت: "أقواله وأفعاله".
[17710]:في ت: "السلام".
[17711]:في ت، ف، أ: "عنهما".
[17712]:رواه الطبري في تفسيره (15/94).
[17713]:صحيح البخاري برقم (4717).
[17714]:المسند (2/474) وسنن الترمذي برقم (3135) وسنن النسائي الكبرى برقم (11293) وسنن ابن ماجة برقم (670) وهو عند أهل السنن من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
[17715]:في ت: "بالليل وملائكة بالنهار".
[17716]:صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632).
[17717]:في ت، ف: "الحرستان".
[17718]:في ف: "أعطيه".
[17719]:تفسير الطبري (15/94).
[17720]:سنن أبي داود برقم (3892) وأوله: "من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل". وزيادة منكر الحديث.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

وقوله { أقم الصلاة } الآية ، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة ، فقال ابن عمرو وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : «دلوك الشمس » زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر ، و { غسق الليل } أشير به إلى المغرب والعشاء ، { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أتاني جبريل { لدلوك الشمس } حين زالت فصلى بي الظهر »{[7658]} ، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس{[7659]} ، وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : «دلوك الشمس » غروبها ، والإشارة بذلك إلى المغرب ، و { غسق الليل } اجتماع ظلمته ، فالإشارة إلى العتمة ، { وقرآن الفجر } صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر ، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات ، وهما من جهة اللغة حسنان ، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال ، وآخره هو الغروب ، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكاً ، لأنها في حالة ميل ، فذكر الله { الصلوات } التي في حالة «الدلوك » وعنده ، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في { غسق الليل } ، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن َأُيَداِلُك الرجل امرأته ؟ يريد أيميل بها إلى المطل في دينها ؟ فقال له الحسن : نعم إذا كان ملحفاً ، أي عديماً{[7660]} ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]

مصابيح ليست باللواتي تقودها . . . نجوم ولا بالآفلات الدوالك{[7661]}

ومن ذلك قول الشاعر : [ الرجز ]

هذا مكان قدمي رباح . . . غدوة حتى دلكت براح{[7662]}

يروى براح بكسر الباء ، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبداً لينظر كيف ميلها وما بقي لها ، وهذا نحو قول الحجاج : [ الرجز ]

والشمس قد كادت تكون دنفاً . . . دفعها بالراح كي تزحلقا{[7663]}

وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال : دلكت براح يعني براح مكاناً . قال : فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم ، وإن كان من كلام راوٍ فأهل الغريب أعلم بذلك{[7664]} ، ويروى أن البيت الأول : «غدوة حتى هلكت بَراح » ، بفتح الباء على وزن قطام وحذام ، وهو اسم من أسماء الشمس ، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته ، وقال الشاعر : [ المديد ]

آب هذا الليل إذ غسقا{[7665]} . . . وقال ابن عباس : { غسق الليل } بدؤه ، ونصب قوله { وقرآن } بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن ، ويصح أن ينصب عطفاً على الصلاة ، أي «وأقم قرآن الفجر » ، وعبر عن صلاة الصبح خاصة ب «القرآن » لأن القرآن هو عظمها{[7666]} ، إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، ويصح أن ينصب قوله { وقرآن } على الإغراء وقوله { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر » ، الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره{[7667]} ، وعلى القول بذلك مضى الجمهور ، وذكر الطبري حديثاً عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء ، في قوله { كان مشهوداً } قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته ، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل ، ونحو هذا مما ليس بالقوي .


[7658]:أخرجه ابن جرير في تفسيره، والذي في جميع الأصول هنا أن الراوي هو ابن مسعود رضي الله عنه، وأول ما يتبادر إلى الذهن أنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن جبيب الهذلي، المعروف، وفي الدر المنثور أيضا ما يؤيد ذلك، فقد قال: "أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه"، ولكن الثابت في ابن جريرالطبري أن الحديث عن أبي مسعود (عقبة بن عمرو)، والنص على أنه (عقبة بن عمرو) يقطع بأنه (أبو مسعود) وليس (ابن مسعود). ولهذا لزم التنويه.
[7659]:رواه الطبري، عن جابر، من طريق ابن أبي ليلى، ورواه من طريق نبيح العتري، عن جابر أيضا. قال العلماء: ونبيح هذا مجهول، وقد جاء في تفسير الطبري هذا اللفظ: (يقول جابر: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول صلى الله عليه وسلم، وقال: ... الحديث).
[7660]:وقع في هذا الخبر تحريف في بعض ألفاظه، وهو في تفسير الطبري، وفي اللسان (دلك)، فكلمة (دينها) ذكرت في بعض النسخ (ديتها) لأن اللسان ذكر تفسير أبي عبيدة للكلام وهو: "قوله: يدالك، يعني المطل بالمهر". واللفظة في الطبري: (بحقها)، وكلمة (ملحفا) وردت في اللسان (ملفجا)، وذكرت في بعض الأصول (مليحا). ومن معاني الإلحاف التي تلائم المعنى هنا أنه الإضرار لغيره، يقال: ألحف به: أضر، أما ألفج فهي أكثر ملاءمة للمعنى، إذ من معانيها: أفلس وذهب ماله، فيكون المعنى المراد: أنه إذا أفلس وذهب ماله ذالك امرأته، أي: ماطلها في حقها، وهذا يناسب التفسير الذي في الخبر بعد ذلك وهو قوله: (أي: عديما)، أما (مليحا) فلا نرى لها وجها هنا يلائم المعنى. البيت في الديوان، وفي اللسان، والتاج، وفي تفسير القرطبي وتفسير البحر المحيط، وهو أيضا في غريب القرآن، والبيت في وصف الإبل، يقول: إنها تصبح في مباركها، والآفلات: الغائبات، يقال: أفل النجم: غاب، والدوالك: التي غابت أو قاربت الغروب، قال في اللسان: إن هذا البيت يقوي أن دلوك الشمس بمعنى الغروب؛ لأنه نفى عنها الأفوال والدلوك.
[7661]:?????
[7662]:البيت في اللسان (دلك)، والرواية فيه: (هذا مقام)، و (ذبب) بدلا من (غدوة)، وهو أيضا في (معاني القرآن) للفراء، والرواية فيه كرواية اللسان. وقد قال الفراء: "قال أبو زكريا: ورأيت العرب تذهب بالدلوك إلى غياب الشمس، أنشدني بعضهم: (هذا مقام .... البيت)، وفي اللسان: "دلكت براح وبراح، أي: قد مالت للزوال حتى كاد الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعاع عن بصره براحته، وبراح، مثل قطام: اسم للشمس، وقال ابن الأعرابي: دلكت براح: استريح منها". أما قوله: (ذبب) فمعناه كما قال الفراء: الساقي ذبب: طرد الناس. وقال أبو عبيدة في (مجاز القرآن): "دلوك الشمس: من عند زوالها إلى أن تغيب"، وروى البيت ثم قال: "ألا ترى أنها تدفع بالراح، يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها". هذه هي التفسيرات التي قالها علماء اللغة في معنى الدلوك، وفي البيت. قد اختصرنا بعضها، وأغفلنا بعضا آخر قد ذكره ابن عطية أو أشار إليه.
[7663]:هذان بيتان من مشطور الرجز، قالهما العجاج بن رؤبة، وهما في الديوان، واللسان، ومجاز القرآن، وغريب القرآن، والطبري، والقرطبي، وفي الجمهرة وتهذيب الألفاظ، قال في اللسان: "ويقال للشمس إذا مالت للمغيب، إذا زالت عن كبد السماء نصف النهار: قد تزحلقت/ قال العجاج: والشمس .... الخ البيتين". أما قوله: (دنفا) فمعناه أنها صارت صفراء كالمريض، يقال: دنفت الشمس وأدنفت إذا دنت للمغيب واصفرت.
[7664]:من المفيد أن ننقل لك هنا نص كلام الطبري الذي لخصه ابن عطية هنا، فإن كلام الطبري أوضح، قال: "وقد ذكرت في الخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود أنه قال حين غربت الشمس: دلكت براح، يعني: براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير، أعني قوله: "براح مكانا" من كلام من هو ممن في الإسناد؟ أو من كلام عبد الله؟ فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شك أنه كان أعلم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب في ذلك قوله دون قولهم. وإن لم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربية كانوا أعلم بذلك منه".
[7665]:هذا صدر بيت لعبيد الله بن قيس الرقيات، والبيت بتمامه: آب هذا الليل إذ غســـقـــا واشتكيت الهم والأرقـــــــا وهو في (مجاز القرآن)، واللسان (غسق)، والقرطبي ، والبحر المحيط، والطبري، والرواية في اللسان ومجاز القرآن والقرطبي : (إن هذا الليل قد غسقا)، وهو شاهد على أن (غسق) بمعنى: أظلم وتكائفت ظلمته. قال في اللسان: "وغسق الليل يغسق غسقا وغسقا وغسقانا: انصب وأظلم ، ومنه ابن قيس الرقيات: (إن هذا الليل. . . البيت).
[7666]:عظم الشيء: معظمه. اللسان (عظم).
[7667]:أخرجه البخاري في المواقيت والتوحيد، ومسلم في المساجد، والنسائي في الصلاة، والموطأ في السفر، وأحمد (2 – 257) ولفظه كما في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

كان شَرْع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين . وأيضاً فقد عينت الآية أوقاتاً للصلوات بعد تقرر فرضها ، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعاً للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذٍ المبتدأ بقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } الآيات [ الإسراء : 23 ] .

فالجملة استئناف ابتدائي . ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبي بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بأن أمره بأعظم عبادة يَعبده بها ، وبالزيادة منها طلباً لازدياد النعمة عليه ، كما دل عليْه قوله في آخر الآية { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] .

فالخطاب بالأمر للنبيء ، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريعٍ تدخُل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم ، وقد عَلم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عن اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال القوي ، كمن سأله : ألنا هذه أمْ للأبد ؟ فقال : بل للأبد .

والإقامة : مجاز في المواظبة والإدامة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في أول سورة [ البقرة : 3 ] .

واللام في { لدلوك الشمس } لام التوقيت ، وهي بمعنى ( عند ) .

والدلوك : من أحوال الشمس ، فوَرد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فَرْضيّ في طريق مسيرها اليومي . وورد بمعنى : مَيل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر ، وورد بمعنى غروبها ، فصار لفظ الدلوك مشتركاً في المعاني الثلاثة .

والغسق : الظلمة ، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق ، وذلك وقت العشاء ، ويسمى العتمة ، أي الظلمة .

وقد جمعت الآية أوقاتاً أربعة ، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه ، والقرينة واضحة . وفهم من حرف ( إلى ) الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل { أقم الصلاة } فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة . وليس المراد غاية لصلاة واحدة جعل وقتها متسعاً ، لأن هذا فَهْم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله : { لدلوك الشمس } من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل . وقد زاد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً للآية .

وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء . فكلمة « دلوك » لا تعادلها كلمة أخرى .

وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في « الموطأ » : أن أول الوقت هو المقصود . وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلاً في « الموطأ » وموصولاً عن أنس بن مالك عند ابن عبد البر وغيره : أن للصبح وقتاً له ابتداء ونهاية .

وهو أيضاً ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عَدا المغرب فقد سكت عنها الأثر . فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها ، وهذا الثاني أرجح ، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين .

وجُعل الغسق نهاية للأوقات ، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشأن المتعارف في الغاية بحرف ( إلى ) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة ، وهذا جمع بديع .

ثم عطف { قرآن الفجر } على { الصلاة } . والتقدير : وأقم قرآن الفجر ، أي الصلاة به . كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليُعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآناً كقوله : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمّل : 20 ] ، أي صَلُّوا به نافلة الليل .

وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها ، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضاً .

ويجوز أن يكون عطف { وقرآن الفجر } عطفَ جملة والكلام على الإغراء ، والتقدير : والزَمْ قرآنَ الفجر ، قاله الزجاج . فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم .

وهذا مجمل في كيفية الصلوات . ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنّة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل .

وجملة { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بأن صلاة الفجر مشهودة ، أي محضورة . وفُسِّر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار ، كما ورد في الحديث : « وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح » وذلك زيادة في فضلها وبركتها . وأيضاً فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذٍ .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أقم الصلاة لدلوك الشمس}، يعني: إذا زالت الشمس عن بطن السماء، يعني: عند صلاة الأولى والعصر،

{إلى غسق الليل}، يعني: ظلمة الليل إذا ذهب الشفق، يعني: صلاة المغرب والعشاء،

{وقرءان الفجر}، يعني: قرآن صلاة الغداة،

{إن قرءان الفجر كان مشهودا}، تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، جميع صلاة الخمس في هذه الآية كلها...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

{أقم الصلاة لدلوك الشمس}

يحيى: عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: دلوك الشمس: ميلها...

و {غسق الليل} اجتماع الليل وظلمته...

ابن رشد: قال مالك: {إلى غسق الليل} قال: الغسق غيبوبة الشفق واجتماع الليل وظلمته...

قال مالك: أوقات الصلاة في كتاب الله تعالى قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} يعني: الظهر والعصر، {إلى غسق الليل}، يعني: المغرب والعشاء،

و {وقرءان الفجر}، يعني: صلاة الفجر. (س: 1/188)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"أقِمِ الصّلاةَ" يا محمد "لِدُلُوكِ الشّمْسِ". واختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس؛ فقال بعضهم: هو وقت غروبها، والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذٍ: صلاة المغرب... وقال آخرون: دلوك الشمس: ميلها للزوال، والصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها: الظهر...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: "أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ": صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل، يقال منه: دلك فلان إلى كذا: إذا مال إليه... فإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي به استشهدنا، فبين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه: "أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلى غَسَقِ اللّيْلِ "أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مما أوجب الله عليك فيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله على نبيه من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل، وغسق الليل: هو إقباله ودنوّه بظلامه...

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده، فقال بعضهم: الصلاة التي أمر بإقامتها عنده صلاة المغرب...

وقال آخرون: هي صلاة العصر...

وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة المغرب دون غيرها، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر، فإنها مما تقام بين ابتداء دلوك الشمس إلى غسق الليل، لا عند غسق الليل. وأما قوله: "وقُرآنَ الفَجْرِ" فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف على الصلاة في قوله: "أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ".

وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب قوله: "وَقُرآنَ الفَجْرِ" على الإغراء، كأنه قال: وعليك قرآن الفجر، "إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا" يقول: إن ما تقرأ به في صلاة الفجر من القرآن كان مشهودا، يشهده فيما ذكر ملائكة الليل وملائكة النهار...

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، قال: ثني أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية "وقُرآنَ الفَجْرِ إن قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا" قال: «تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللّيْلِ وَمَلائِكَةُ النّهارِ»...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{أقم الصلاة} يحتملا الأمر بإقامة الصلاة الأمر بالدوام عليها واللزوم بها، أي ألزم بها، وأدمها، أو اسم التمام والكمال، أي أتمها، وأكملها، بالشرائط التي أُمِرْتَ بها. ويحتمل قوله: {أقم الصلاة} أفعلها...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

قال مالك: أوقات الصلاة في كتاب الله تعالى قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} يعني: الظهر والعصر، {إلى غسق الليل}، يعني: المغرب والعشاء، و {وقرءان الفجر، يعني: صلاة الفجر. (س: 1/188).

وقد قال ذلك قبله جماعة من العلماء بتأويل القرآن، منهم: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وغيرهم.

دلوكها: ميلها عند أكثر أهل العلم، ومنهم من قال: دلوكها: غروبها، واللغة محتملة للقولين، والأول أكثر. (س: 1/190)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

دلكت الشمس: غربت. وقيل: زالت... واشتقاقه من الدلك، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء... {وَقُرْءَانَ الفجر} صلاة الفجر، سميت قرآناً وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً...

{مَشْهُودًا} يشهده ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء، ويصعد هؤلاء؛ فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة. أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة. ويجوز أن يكون {وَقُرْءَانَ الفجر} حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مكثوراً عليها، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب؛ ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

... وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ...

{إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}: يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَالْكَاتِبِينَ. ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ. ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ- كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ).

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى: {أقم} أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه {الصلاة} بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس: دلكت الشمس: غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء. فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى: {إلى} حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق {غسق الّيل} فالغسق: ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع: وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني: ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى: {وقرءان} فكأنه قال: ثم نم وأقم قرآن {الفجر} إشارة إلى الصبح، وقيل: نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم.

ولما كان القيام من المنام صعباً، علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى: {إن قراءن الفجر كان مشهوداً} يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {إن قرءان الفجر} -الآية. قالوا: وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه؛ واقرأ قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا).. ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل. وإدبار الليل وإقبال النهار. ولهما وقعهما العميق في النفس، فإن مقدم الليل وزحف الظلام، كمطلع النور وانكشاف الظلمة.. كلاهما يخشع فيه القلب، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة. وللقرآن -كما للصلاة- إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته، ونسماته الرخية، وهدوئه السارب، وتفتحه بالنور، ونبضه بالحركة، وتنفسه بالحياة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

كان شَرْع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين. وأيضاً فقد عينت الآية أوقاتاً للصلوات بعد تقرر فرضها، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعاً للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذٍ المبتدأ بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} الآيات [الإسراء: 23].

فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبي بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بأن أمره بأعظم عبادة يَعبده بها، وبالزيادة منها طلباً لازدياد النعمة عليه، كما دل عليْه قوله في آخر الآية {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79].

فالخطاب بالأمر للنبيء، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريعٍ تدخُل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم، وقد عَلم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عن اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال القوي، كمن سأله: ألنا هذه أمْ للأبد؟ فقال: بل للأبد.

والإقامة: مجاز في المواظبة والإدامة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في أول سورة [البقرة: 3].

واللام في {لدلوك الشمس} لام التوقيت، وهي بمعنى (عند).

والدلوك: من أحوال الشمس، فوَرد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فَرْضيّ في طريق مسيرها اليومي. وورد بمعنى: مَيل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر، وورد بمعنى غروبها، فصار لفظ الدلوك مشتركاً في المعاني الثلاثة.

والغسق: الظلمة، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق، وذلك وقت العشاء، ويسمى العتمة، أي الظلمة.

وقد جمعت الآية أوقاتاً أربعة، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه، والقرينة واضحة. وفهم من حرف (إلى) الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل {أقم الصلاة} فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة. وليس المراد غاية لصلاة واحدة جعل وقتها متسعاً، لأن هذا فَهْم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله: {لدلوك الشمس} من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل. وقد زاد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً للآية.

وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء. فكلمة « دلوك» لا تعادلها كلمة أخرى.

وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في « الموطأ»: أن أول الوقت هو المقصود. وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلاً في « الموطأ» وموصولاً عن أنس بن مالك عند ابن عبد البر وغيره: أن للصبح وقتاً له ابتداء ونهاية.

وهو أيضاً ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عَدا المغرب فقد سكت عنها الأثر. فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها، وهذا الثاني أرجح، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين.

وجُعل الغسق نهاية للأوقات، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشأن المتعارف في الغاية بحرف (إلى) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة، وهذا جمع بديع.

ثم عطف {قرآن الفجر} على {الصلاة}. والتقدير: وأقم قرآن الفجر، أي الصلاة به. كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليُعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآناً كقوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} [المزمّل: 20]، أي صَلُّوا به نافلة الليل.

وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضاً.

ويجوز أن يكون عطف {وقرآن الفجر} عطفَ جملة والكلام على الإغراء، والتقدير: والزَمْ قرآنَ الفجر، قاله الزجاج. فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم.

وهذا مجمل في كيفية الصلوات. ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنّة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل.

وجملة {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بأن صلاة الفجر مشهودة، أي محضورة. وفُسِّر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد في الحديث: « وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» وذلك زيادة في فضلها وبركتها. وأيضاً فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذٍ.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الفناء نهاية الباطل:

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والارتباط بالله والتي تعتبر عوامل مؤثِّرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إِغواءات الشيطان مِن قلب وروح الإِنسان، إِذ تقول الآيات في البداية (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إِنَّ قرآن الفجر كانَ مشهوداً).