البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة ، واستدل الفراء بقول الشاعر :

هذا مقام قدمي رباح . . . ***غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس ، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها . . . ***نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل : الدلوك زوال الشمس نصف النهار .

قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها .

وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب .

الغسق سواد الليل وظلمته .

قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين .

وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله .

قال الشاعر :

إن هذا الليل قد غسقا . . . ***واشتكيت الهم والأرقا

وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل ، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم .

قال الشاعر :

ظلت تجود يداها وهي لاهية . . . ***حتى إذا جنح الإظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق ؟ قال : الليل بظلمته ، ويقال غسقت العين امتلأت دماً .

وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش ، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي .

{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً .

وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } .

ومناسبة { أقم الصلاة } لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم ، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام .

واللام في { لدلوك } قالوا : بمعنى بعد أي بعد دلوك { الشمس } كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً :

فلما تفرّقنا كأني ومالكاً . . . ***لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا .

وقال الواحدي : اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس ، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس .

قال ابن عطية : { أقم الصلاة } الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة .

فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : دلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات .

وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر " .

" وروى جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال : «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس » " وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب و { غسق الليل } ظلمته فالإشارة إلى العتمة { وقرآن الفجر } صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى .

وعن عليّ أنه الغروب ، وتتعلق اللام وإلى بأقم ، فتكون إلى غاية للإقامة .

وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال : أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح ، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، وانتصب { وقرآن الفجر } عطفاً على { الصلاة } .

وقال الأخفش : انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر { قرآن الفجر } أو عليك { قرآن الفجر } انتهى .

وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها .

وقال الزمخشري : سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ بن أبي علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى .

وقيل : إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل ، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين المغرب والعشاء ، ويكون المذكور ثلاثة أوقات : أول وقت الزوال ، وأول وقت المغرب ، وأول وقت الفجر انتهى ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق ، وبقرآن الفجر ، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآن الفجر ، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه .

وقال أبو عبد الله الرازي في قوله { وقرآن الفجر } دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب ، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى { وقرآن الفجر } صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل ، ولأن في نسق التلاوة { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً .

والهاء في { به } كناية عن { قرآن الفجر } المذكور قبله ، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر ، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى .

وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر ، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر ، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية ، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد { قرآن الفجر } في قوله { إن قرآن الفجر } ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى { مشهوداً } تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث : « إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر » وهذا قول الجمهور .

وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة .

وقيل : من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون { وقرآن الفجر } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى .

ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك { قرآن الفجر } أو والزم .

وقال محمد بن سهل بن عسكر : { مشهوداً } يشهده الله وملائكته ، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله { مشهوداً } على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب ، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله فيه : « يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار » وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح .