التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( 78 ) ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( 79 ) } ذلك بيان من الله لأشرف الطاعات وأرفعها قدرا وأجلها تعظيما وهي الصلاة ؛ فقد أمر الله المسلمين أن يقيموا هذه الفريضة العظيمة على خير وجه من الصحة وتمام الأداء ، وأن يحافظوا عليها في كل الأحوال ، وأن لا يفرطوا فيها أيما تفريط . وقد بيّن الله أوقات الصلوات المفروضة جميعها في هذه الآية ، وبهذا الأسلوب الجامع العجيب في كلمات معدودة مصطفاة على أكمل ما يكون عليه الترابط والانسجام بما ينطق بروعة هذا القرآن وإعجازه فقال : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اختلف العلماء في معنى الدلوك هنا على قولين : أحدهما : أنه غروب الشمس . وهو قول ابن مسعود وأبي بن كعب وهو رواية عن ابن عباس .

ثانيهما : أنه زوال الشمس عن كبد السماء . وهو قول أكثر أهل العلم . وقال به عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس والشعبي وعطاء وقتادة وآخرون غيرهم . وهو القول الراجح ؛ فقد قال أهل اللغة : معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ، وبذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وقيل لها إذا أفلت : دالكة ؛ لأنها في الحالتين زائلة . قال الأزهري : والقول عندي أن دلوك الشمس زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس . والمعنى ، والله أعلم : أقم الصلاة يا محمد ؛ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل ؛ فيدخل فيها الأولى والعصر ، وصلاتا غسق الليل هما العشاءان ، فهذه أربع صلوات ، والخامسة قوله : ( وقرآن الفجر ) . والمعنى : وأقم صلاة الفجر ، فهذه خمس صلوات فرضها الله تعالى على نبيه ( ص ) وعلى أمته{[2727]} .

قوله : ( إلى غسق الليل ) وغسق الليل : اجتماع ظلمته ، أو هو ظلمة أول الليل . وأغسق الليل : اشتدت ظلمته . والغسوق والإغساق بمعنى الإظلام . والغاسق : القمر أو الليل إذا غاب الشفق{[2728]} . والمراد به هنا وقت صلاة العشاء الآخرة ؛ لأن غسق الليل معناه إقبال الليل وظلامه ، ولا يكون ذلك إلا بعد مغيب الشفق وذلك عند تراكم الظلمة واشتدادها ، فإذا حملنا الغسق على هذا المعنى ؛ دخلت الصلوات الأربع فيه وهي : الظهر والعصر والمغرب والعشاء .

قوله : ( وقرآن الفجر ) ( قرآن ) ، منصوب لكونه معطوفا على الصلاة ، وتقديره : أقم الصلاة وقرآن الفجر . وقيل : منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : واقرأوا قرآن الفجر{[2729]} وذلك على سبيل الإغراء والتحضيض . والمراد : صلاة الفجر ، وعبر عنها بالقرآن دون غيرها من الصلوات ؛ لأن القرآن أعظم ما فيها ، وقراءة القرآن فيها طويلة ومجهورة ؛ فإنه يستحب إطالة القراءة في صلاة الصبح على أن لا يضر القارئ بمن خلفه . ويلي هذه في الإطالة صلاة كل من الظهر والعصر ، وتخفيف القراءة في المغرب ، وتوسطها في العصر والعشاء ؛ فلا ينبغي التطويل فيهما ؛ فقد ورد في الصحيح عن النبي ( ص ) أنه قال : " أيها الناس إن منكم منفرين ، فأيكم أم الناس فليخفف ؛ فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة " . على أن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة للإمام والفذ . وهو قول الجمهور ، واستدلوا بالخبر : " لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب " . وكذلك قوله ( ص ) : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج " وروي عن مالك قوله : إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته . وقيل : إنها تجزي في ركعة واحدة . وهو قول الحسن البصري وآخرين . وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن فاتحة الكتاب غير واجبة في الصلاة ؛ بل الواجب مطلق القراءة . فأيما آية قرأها فإنها تجزي . وحدّ أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين . ودليل الحنفية في ذلك ظاهر قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) وقوله ( ص ) : " ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " {[2730]} .

قوله : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) في قوله : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " .


[2727]:- لسان العرب جـ10 ص 428 وانظر تفسير الطبري جـ15 ص 92، 93.
[2728]:- القاموس المحيط جـ4 ص 281.
[2729]:- البيان لابن الأنباري جـ2 ص 95.
[2730]:- تفسير القرطبي جـ10 ص 306 وبداية المجتهد جـ1 ص 109 والمهذب للشيرازي جـ1 ص 72.