نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد ، وقرر أمرهم أحسن تقرير ، واستعطفهم بنعمه ، وخوفهم من نقمه ، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته ، وأحسن من علانيته وسريرته ، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة ، وتهيأ للمراقبة ، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى : { أقم } أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه { الصلاة } بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها ، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها ، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير ، وفناء كل سوى ، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان ، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء ، وأدفع الأشياء للضراء ، وأجلبها لكل سراء ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر ؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى : { لدلوك الشمس } أي زوالها واصفرارها وغروبها ، قال في القاموس : دلكت الشمس : غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء . فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه ، أما في الظهر والمغرب فواضح ، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار ، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى : { إلى } حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً ، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة ، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق { غسق الّيل } فالغسق : ظلمة أول الليل ، وهو وقت النوم ؛ وقال الرازي في اللوامع : وهو استحكام ظلمة الليل ، وقال الرماني : ظهور ظلامه ؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى : { وقرءان } فكأنه قال : ثم نم وأقم قرآن { الفجر } إشارة إلى الصبح ، وقيل : نصب على الإغراء ، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها ، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم .

ولما كان القيام من المنام صعباً ، علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى : { إن قراءن الفجر كان مشهوداً * } يشهده فريقا الملائكة ، وهو أهل لأن يشهده كل أحد ، لما له من اللذة في السمع ، والإطراب للقلب ، والإنعاش للروح ، فصارت الآية جامعة للصلوات ؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ، يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { إن قرءان الفجر } - الآية . قالوا : وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت ، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل ؛