الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا} (78)

قوله تعالى : { لِدُلُوكِ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى " بَعْد " ، أي : بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ ، ومثلُه قول متمم بن نويرة :

فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً *** لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً

ومثلُه قولُهم : " كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ " . والثاني : أنها على بابها ، أي : لأجلِ دُلُوك . قال الواحدي : " لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس " .

والدُّلوك : مصدرُ دَلَكت الشمسُ ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أشهرُها : أنه الزوالُ ، وهو نِصْفُ النهار . والثاني : أنه من الزوال إلى الغروب . قال الزمخشري : " واشتقاقُه من الدَّلْكِ ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها " . قلت : وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ . والثالث : أنه الغروبُ ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه :

هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ *** ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ

أي : غَرَبَتْ بَراحِ ، وهي الشمسُ . وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة :

مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها *** نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ

أي : الغارِبات : وقال الراغب : دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب ، وهو مِنْ قولِهم : دَلَكْتُ الشمسَ : دفعتُها بالرَّاح ، ومنه : دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ ، ودَلَكْتُ الرجلَ : ماطَلْتُه ، والدَّلُوك : ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ ، والدَّلِيْكُ : طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر " .

قوله : { إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ } في هذا الجارِّ وجهان ، أحدٌهما : أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ " فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ ، وكذلك اللامُ في " لِدُلوك " متعلقةٌ به أيضاً . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الصلاة " ، أي : أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ : من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً ، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ .

والغَسَقُ : دخولُ أولِ الليل ، قاله ابنُ شميل . وأنشد :

إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا *** واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا

وقيل : هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه ، وأصلُه من السَّيَلان : غَسَقَتِ العين ، أي : سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال :

ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ *** حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ

ويُقال : غَسَقَتِ العينُ : امتلأَتْ دَمْعاً ، وغَسَقَ الجرحُ : امتلأَ دَماً ، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ . والغاسِقُ في قوله : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] قيل : المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ . وقيل : الليل . والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار . ويُقال : غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ ، ودَجَى وأَدْجَى ، وغَبَشَ وأَغْبَشَ ، نقله الفرَّاء .

قوله : { قُرْآنَ الْفَجْرِ } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه عطفٌ على " الصلاة " ، أي : وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها . والثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراء ، أي : وعليك قرآنَ الفجر ، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء ، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا ؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، أي : كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ .