تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} (24)

يقول تعالى : بل { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ } يا محمد : { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : دليلكم على ما تقولون ، { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ } يعني : القرآن ، { وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } يعني : الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون ، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، ناطق بأنه لا إله إلا الله ، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق ، فأنتم معرضون عنه ؛ ولهذا قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا يُوحَى{[19610]} إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، كما قال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ،

وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضا ، والمشركون لا برهان لهم ، وحجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد


[19610]:- في ف ، أ : "نوحي".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} (24)

{ أم اتخذوا من دونه آلهة } كرره استعظاما لكفرهم واستفظاعا لأمرهم وتبكيتا وإظهارا لجهلهم ، أو ضما لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل على معنى أوجدوا آلهة ، ينشرون الموتى فاتخذوهم آلهة ، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية ، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم فاتخذوهم متابعة للأمر ، ويعضد ذلك أنه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا . { قل هاتوا برهانكم } على ذلك إما من العقل أو من النقل ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا . { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } من الكتب السماوية فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، والتوحيد لما لم يتوقف على صحته بعثة الرسل وإنزال الكتب صح الاستدلال فيه بالنقل و { من معي } أمته و { من قبلي } الأمم المتقدمة وإضافة ال { ذكر } إليهم لأنه عظتهم ، وقرىء بالتنوين ولا إعمال وبه وب { من } الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وشبههما وبعدهما . { بل كأكثرهم لا يعلمون الحق } ولا يميزون بينه وبين الباطل ، وقرىء { الحق } بالرفع على أنه خبر محذوف وسط للتأكيد بين السبب والمسبب . { فهم معرضون } عن التوحيد وإتباع الرسول من أجل ذلك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} (24)

جملة { أم اتخذوا من دونه آلهة } تأكيد لجملة { أم اتخذوا آلهة من الأرض } [ الأنبياء : 21 ] . أُكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاماً لِفظاعته وليُبنَى عليه استدلالٌ آخر كما بُني على نظيره السابق ؛ فإن الأول بني عليه دليلُ استحالةٍ من طريق العقل ، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابِقِها ولاحقها ، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { هاتوا برهانكم } أي ، هاتوا دليلاً على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل .

والبرهان : الحجة الواضحة . وتقدم في قوله تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } في سورة النساء ( 174 ) .

والإشارة في قوله تعالى { هذا ذكر من معي } إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر . والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه ، كقوله تعالى : { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } في سورة لقمان ( 11 ) ، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة . وإضافة { ذِكر } إلى { مَن معي } من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكَّرون بفتح الكاف .

والمعية في قوله تعالى { مَن معي } معيَّة المتابعة ، أي مَن معي من المسلمين ، فما صْدق ( مَن ) الموصولة الأمم ، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي ، أي الذكر المنزل لأجلكم . فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ الأنبياء : 10 ] . والمراد بقوله تعالى : { هذا ذكر من معي } القرآن ، وأما قوله تعالى : { وذكر من قبلي } فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة : التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان . وهذا كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط في } [ آل عمران : 18 ] .

وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون } ، أي لا تَرجُ منهم اعترافاً ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانياً ، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون عِلمه .

والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى { فهم معرضون } ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها .

وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلاً عليهم بأن قليلاً منهم يعلمون الحق ويجحدونه ، أو إيماء إلى أن قليلاً منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ . وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوباً فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشَرَاشِرِه فما أتمها حتى عزم على الإسلام .