اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} (24)

قوله تعالى : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً } استعظام لكفرهم ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ{[28111]} . { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } إما من جهة العقل وإما من جهة النقل ، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولاً ، وقرر الأصل ، الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم . قوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } العامة على إضافة «ذِكْرُ » إلى «مَنْ » أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى «بِسُؤَالِ نَعْجَتِك »{[28112]} . وقرئ «ذِكْرٌ » بالتنوين فيهما و «مَنْ » مفتوحة الميم{[28113]} . نوّن المصدر ونصب به المفعول ( كقوله تعالى ){[28114]} { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً }{[28115]} . وقرأ يحيى بن يعمر «ذِكْرٌ » بتنوينهما{[28116]} و «مِنْ » بكسر الميم{[28117]} ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أن ثم موصوفاً محذوفاً قامت صفته وهي الظرف مقامه ، والتقدير : هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي{[28118]} .

والثاني : أن «مَعِيَ » بمعنى عندي{[28119]} . ودخول «من » على «مع » في الجملة نادر ، لأنها ظرف لا يتصرف{[28120]} .

وقد ضعف أبو حاتم{[28121]} هذه القراءة ، ولم ير لدخول «من » على «مع » وجهاً{[28122]} .

ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو ( قبل وبعد ) فكما تدخل ( من ) على أخواته كذلك تدخل عليه{[28123]} . وقرأ طلحة : «ذِكْرٌ مَعِي وذِكْرٌ قَبْلِي » بتنوينهما دون ( من ) فيهما{[28124]} . وقرأ طائفة «ذِكْرُ مَنْ » بالإضافة ل «من » كالعامة { وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } بتنوينه وكسر ميم{[28125]} «من »{[28126]} ووجهها{[28127]} واضح مما تقدم{[28128]} .

فصل

قال ابن عباس «هذا ذكر من معي » أي : هو الكتاب المنزل على من معي ، «وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي »{[28129]} أي : الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف . وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا{[28130]} كما قال بعد هذا : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن{[28131]} قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله{[28132]} إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون }{[28133]} . وهذا اختيار القفال والزجاج{[28134]} .

وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي : معناه : القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني ، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة{[28135]} . وقال القفال : المعنى : قل لهم : هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال لمن معي من المخالفين والموافقين ، وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين ، فاختاروا لأنفسكم ، فكأن الغرض منه التهديد{[28136]} . ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه ، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق{[28137]} .

العامة على نصب «الحَقَّ » وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به بالفعل قبله{[28138]} .

والثاني : أنه مصدر مؤكد . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على التوكيد لمضمون الجملة لسابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل{[28139]} فأكد انتقاء العلم . وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع وحميد برفع «الحَقُّ »{[28140]} وفيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر لمبتدأ مضمر{[28141]} .

والثاني : أنه خبر لمبتدأ مضمر{[28142]} .

قال الزمخشري «وقرئ » الحَقُّ «بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل{[28143]} .


[28111]:"أم" هنا مثل "أم" في قوله تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} [الأنبياء:21] وقد تقدم الكلام فيها. فإن "أم" هنا المنقطعة ومعناه الإضراب الذي يتضمن استفهاما إنكاريا. والإضراب هنا للانتقال من غرض إلى غرض، فإنه لما ذكر دليل التوحيد أولا، وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم.
[28112]:من قوله تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} [من سورة ص: 42] فهو مصدر مضاف إلى المفعول به. البحر المحيط 6/306.
[28113]:البحر المحيط 6/306.
[28114]:ما بين القوسين سقط من ب.
[28115]:[البلد: 14، 15] هذا على مذهب البصريين في إعمال المصدر المنون، وأنكره الكوفيون، وقالوا: إن وقع بعده مرفوع أو منصوب فبإضمار فعل يفسره المصدر. انظر إعراب ثلاثين سورة من القرآن. (91)، البحر المحيط 6/306، الهمع 2/93.
[28116]:في الأصل: بتنوينها. وهو تحريف.
[28117]:المختصر: (91)، المحتسب 2/61، البحر المحيط 6/306.
[28118]:انظرالتبيان 2/915.
[28119]:انظر المحتسب 2/61/ البحر المحيط 6/306.
[28120]:من الظروف التي لا تتصرف (مع)، وهي اسم لمكان الاجتماع أو وقته تقول: زيد مع عمرو، وجئت مع العصر، وهي اسم معرب ملازم للإضافة لا ينفك عنها إلا مستعملا حالا بمعنى جميع كقول الشاعر: بكت عيني اليسرى فلما زجرتها *** عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا ويدل على اسميتها تنوينها في قولك: معا، ودخول (من) عليها، حكى سيبويه: ذهب من معه، وقراءة يحيى بن يعمر لهذه الآية. والمشهور فيها فتح العين، وهو فتح إعراب، وربيعة وغنم تسكين عينها إذا وليها متحرك نحو زيد مع عمرو، وكقول جرير: وريشي منكم وهواي معكم *** وإن كانت زيارتكم لماما وزعم سيبويه أن تسكين العين ضرورة. واسميتها حين السكون باقية خلافا لمن زعم حرفيتها حين ذلك، وادعى النحاس الإجماع عليه، وهو غير صحيح. ونقل فيها فتح عينها وكسرها إذا وليها ساكن نحو مع القوم. انظر الكتاب 3/286-287، شرح الأشموني 2/264-265. الهمع 1/217-218.
[28121]:هو سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السجستاني، كان إماما في علوم القرآن واللغة والشعر قرأ كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وروى عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وغيرهم، وعنه ابن زيد دريد وغيره، صنف إعراب القرآن، لحن العامة. القراءات، الوحوش وغير ذلك مات سنة 255 هـ بغية الوعاة 1/606-707.
[28122]:انظر البحر المحيط 6/306.
[28123]:هذا التوجيه لأبي حيان، البحر المحيط 6/306.
[28124]:المختصر (91)، البحر المحيط 6/306.
[28125]:ميم: سقط من ب.
[28126]:البحر المحيط 6/306.
[28127]:في ب: ثم من وجهها. وهو تحريف.
[28128]:من توجيه قراءة يحيى بن يعمر.
[28129]:في ب: قبل وهو تحريف.
[28130]:قال تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14].
[28131]:من: سقط من ب.
[28132]:أنه لا إله: سقط من ب.
[28133]:[الأنبياء: 25].
[28134]:انظر معاني القرآن وإعرابه 3/389، الفخر الرازي 22/158.
[28135]:انظر الفخر الرازي 22/158.
[28136]:المرجع السابق.
[28137]:المرجع السابق.
[28138]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/83، البيان 2/160، التبيان 2/915، البحر المحيط 6/306.
[28139]:الكشاف 3/8.
[28140]:المختصر (91). والمحتسب: 2/61، البحر المحيط 6/306.
[28141]:قاله صاحب اللوامح. انظر البحر المحيط 6/306.
[28142]:والتقدير: هو الحق أو هذا الحق. انظر مشكل إعراب القرآن 2/83، المحتسب 2/61، البحر المحيط 6/306.
[28143]:الكشاف 3/8.