البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} (24)

ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال : { أم اتخذوا من دونه آلهة } استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم ، وزاد في هذا التوبيخ قوله { من دونه } فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل ، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكاً لا من جهة العقل ولا من جهة النقل ، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به { هذا ذكر من معي } أي عظة للذين معي وهم أمته { وذكر } للذين { من قبلي } وهم أمم الأنبياء ، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون { هذا } إشارة إلى القرآن .

والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم ، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم .

والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي { هاتوا برهانكم } فهذا برهاني في ذلك ظاهر .

وقرأ الجمهور : بإضافة { ذكر } إلى { من } فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله { بسؤال نعجتك } وقرىء بتنوين { ذكر } فيهما و { من } مفعول منصوب بالذكر كقوله { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين { ذكر } فيهما وكسر ميم { من } فيهما ، ومعنى { معي } هنا عندي ، والمعنى { هذا ذكر من } عندي و { من قبلي } أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم ، ودخول { من } على مع نادر ، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه { من } كما دخلت على قبل وبعد وعند ، وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول { من } على مع ولم ير لها وجهاً .

وعن طلحة { ذكر } منوناً { معي } دون { مِن } { وذكر } منوناً { قبلي } دون { من } .

وقرأت فرقة { وذكر من } بالإضافة { وذكر } منوناً { من قبلي } بكسر ميم من .

وقرأ الجمهور { الحق } بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل ، ومن ثم جاء الإعراض عنه .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل ، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم ، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق .

وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن { أكثرهم لا يعلمون الحق } لإعراضهم عنه وليس المعنى { فهم معرضون } لأنهم لا يعلمون بل المعنى { فهم معرضون } ولذلك { لا يعلمون الحق } وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن { الحق } بالرفع .

قال صاحب اللوامح : ابتداءً والخبر مضمر ، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر .

وقال ابن عطية : هذا القول هو { الحق } والوقف على هذه القراءة على { لا يعلمون } .

وقال الزمخشري : وقرىء { الحق } بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب ، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى .