تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .

فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .


[30233]:- (1) في م، أ: "فتزوده".
[30234]:- (2) في أ: "يرجف فؤاده".
[30235]:- (3) في م ،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
[30236]:- (4) في أ: "على عيسى".
[30237]:- (5) في م: "يا ليتني".
[30238]:- (6) في أ: "بمثل ما جئت به".
[30239]:- (7) زيادة من م، أ، والمسند.
[30240]:- (1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3، 4، 4953، 6982، 4955، 3392) وصحيح مسلم برقم (160).
[30241]:- (2) زيادة من م، أ.
[30242]:- (3) في م: "المباركة".
[30243]:- (4) جاء عن عمر - رضي الله عنه - موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503). وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368)، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
[30244]:- (5) في م: "أورثه".
[30245]:- (6) زيادة من م، أ.

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعا وتدبيرا ، وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة ، فقال : خلق الإنسان أو الذي خلق الإنسان ، فأبهم أولا ، ثم فسر تفخيما لخلقه ، ودلالة على عجيب فطرته ( من علق ) جمعه على الإنسان في معنى الجمع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه ، وما يجده كل مفطور في نفسه ، فقال : { خلق الإنسان من علق } ، وخلقه الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبراً منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه ، والعلق جمع علقة ، وهي القطعة اليسيرة من الدم ، و { الإنسان } هنا : اسم الجنس ، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان ، وليست الإشارة إلى آدم ، لأنه مخلوق من طين ، ولم يكن ذلك متقرراً عند الكفار المخاطبين بهذه الآية ، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريباً لأفهامهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

وجملة { خلق الإنسان من علق } يجوز أن تكون بدلاً من جملة { الذي خلق } بدل مفصَّل من مُجْمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قُدِّر له مفعول عام ، وسُلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداءً لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام .

ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل .

ويجوز أن تكون بياناً من { الذي خلق } إذا قُدر لفعل { خلق } الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق .

وعدم ذكر مفعول لفعل { خلق } يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم ، أي خلق كل المخلوقات ، وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان اعتماداً على ما يرد بعده من قوله { خلق الإنسان } ، فهذه معانٍ في الآية .

وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .

وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم .

وفي قوله : { من علق } إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي .

والعلق : اسم جمع عَلَقَة وهي قطعةٌ قَدرُ الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطْباً لم يجفّ ، سمي بذلك تشبيهاً لها بدودةٍ صغيرة تسمَّى علقة ، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة ، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يُتفطن لها .

ومعنى : { خلق الإنسان من علق } أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافيَة تصيران علقةً فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكوّن ، فجُعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تُجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة .

ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإِنسان يتخلق من بويضة دقيقة جداً لا ترى إلا بالمرآة المكبِّرة أضعافاً تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يَعُقْها عائق كما قال تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } [ الحج : 5 ] ، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلاً فشابهت العلقة التي في الماء مشابَهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة ، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة .

ومعنى حرف { مِن } الابتداء .