تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ} (3)

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .

فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .


[30233]:- (1) في م، أ: "فتزوده".
[30234]:- (2) في أ: "يرجف فؤاده".
[30235]:- (3) في م ،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
[30236]:- (4) في أ: "على عيسى".
[30237]:- (5) في م: "يا ليتني".
[30238]:- (6) في أ: "بمثل ما جئت به".
[30239]:- (7) زيادة من م، أ، والمسند.
[30240]:- (1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3، 4، 4953، 6982، 4955، 3392) وصحيح مسلم برقم (160).
[30241]:- (2) زيادة من م، أ.
[30242]:- (3) في م: "المباركة".
[30243]:- (4) جاء عن عمر - رضي الله عنه - موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503). وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368)، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
[30244]:- (5) في م: "أورثه".
[30245]:- (6) زيادة من م، أ.

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ} (3)

قوله : اقْرأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ يقول : اقرأ يا محمد وربك الأكرم الّذِي عَلّمَ بِالقَلَمِ : خَلْقَه الكتاب والخط ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ) قرأ حتى بلغ عَلّمَ بِالقَلَمِ قال : القلم : نعمة من الله عظيمة ، لولا ذلك لم يقم ، ولم يصلح عيش .

وقيل : إن هذه أوّل سورة نزلت في القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني أحمد بن عثمان البصري ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت النعمان بن راشد يقول عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : كان أوّل ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، كانت تجيء مثل فَلَقِ الصبح ، ثم حُبّب إليه الخلاء ، فكان بغار حِراء يتحنّث فيه اللياليَ ذواتِ العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله ، ثُمّ يَرْجع إلى أهْلِهِ فيتزوّد لمثلها ، حتى فجأه الحقّ ، فأتاه فقال : يا محمد أنت رسول الله ، قال رسول الله : «فَجَثَوْتُ لِرُكَبَتيّ وأنا قائمٌ ، ثُمّ رَجَعْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي ، ثُمّ دَخَلْت عَلى خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : زَمّلُونِي زَمّلُونِي ، حتى ذَهَبَ عَنّي الرّوْعُ ، ثُمّ أتانِي فَقالَ : يا مُحَمّدُ ، أنا جِبْرِيلُ وأنْتَ رَسُولُ اللّهِ ، قالَ : فَلَقَدْ هَمَمْت أنْ أطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حالِقٍ مِنْ جَبَلٍ ، فَتَمَثّلَ إليّ حِينَ هَمَمْتُ بذلكَ ، فَقالَ : يا مُحمّدُ ، أنا جِبْرِيلُ وأنْتَ رَسُولٌ اللّهِ ، ثُمّ قالَ : اقْرأْ ، قُلْتُ : ما أقْرأُ ؟ قال : فأخَذَنِي فَغَطّنِي ثَلاثَ مَرّاتٍ ، حتى بَلَغَ مِنّي الجَهْدُ ، ثمّ قالَ : ( اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ) فَقَرأْتُ ، فأتَيْتُ خَدِيجَةً ، فَقَلْتُ : لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلى نَفْسِي ، فأخْبَرْتُها خَبَرِي ، فَقَالَتْ : أبْشِرْ ، فَوَاللّهِ لا يُخْزيكَ اللّهُ أبَدا ، وَوَاللّهِ إنّكَ لَتَصِلُ الرّحَمِ ، وَتَصْدُقُ الْحَديثَ ، وَتُؤَدّي الأمانَةَ ، وَتَحْمِلُ الكَلّ ، وَتَقْرِي الضّيْفَ ، وتُعِينُ عَلى نَوَائِبِ الْحَقّ ثُمّ انْطَلَقَتْ بِي إلى وَرَقَةَ بنِ نَوفَلِ بنِ أسَدٍ ، قالَتِ : اسمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ ، فَسألَنِي ، فأخْبَرْتُهُ خَبِري ، فَقالَ : هَذَا النّامُوسُ الّذِي أُنْزِلَ عَلى مُوسَى صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ ، لَيْتَنِي فِيها جَذَعٌ لَيْتَنِي أكُونُ حَيّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، قُلْتُ : أوَ مُخْرِجيّ هُمْ ؟ قال : نَعَمْ ، إنّهُ لَمْ يَجِىءْ رَجُلٌ قَطّ بِمَا جِئْتَ بِهِ ، إلاّ عُودِيَ ، وَلَئِنْ أدْرَكَنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرا مُؤَزّرا ، ثُمّ كانَ أوّلُ ما نَزَلَ عَليّ مِنَ القُرآنِ بَعْدَ «اقْرأْ » : ( ن والقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإنّ لَكَ لأَجْرا غَيرَ مَمْنُونٍ وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ ) ، و( يا أيّها المُدّثِرُ قُمْ فأنْذِرْ ) ، و( والضّحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة أن عائشة أخبرته ، وذكر نحوه ، غير أنه لم يقل : ثم كان أوّل ما أُنزل عليّ من القرآن . . . الكلام إلى آخره .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا سليمان الشيباني ، قال : حدثنا عبد الله بن شدّاد ، قال : أتى جبريل محمدا ، فقال : يا محمد اقرأ ، فقال : «وما أقرأ ؟ » قال : فضمه ، ثم قال : يا محمد اقرأ ، قال : «وما أقرأ ؟ » قال : ( باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ) حتى بلغ ( عَلّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) . قال : فجاء إلى خديجة ، فقال : «يا خديجة ما أراه إلا قد عُرِضَ لي » ، قالت : كّلا ، والله ما كان ربك يفعل ذلك بك ، وما أتيت فاحشة قطّ . قال : فأتت خديجة ورقة ، فأخبرته الخبر ، قال : لئن كنتِ صادقة إن زوجكِ لنبيّ ، ولَيَلْقَينّ من أمته شدّة ، ولئن أدركته لأومننّ به . قال : ثم أبطأ عليه جبريل ، فقالت له خديجة : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله : ( وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى ) .

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهريّ ، عن عُرْوة ، عن عائشة قال إبراهيم : قال سفيان : حفظه لنا ابن إسحاق : إن أوّل شيء أُنزل من القرآن : اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ .

حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهريّ عن عروة ، عن عائشة ، أنّ أوّل سورة أُنزلت من القرآن اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار ، عن عُبيد بن عُمير ، قال : أوّل سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ .

قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت عُبيد بن عُمير يقول : فذكر نحوه .

حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : حدثنا قرّة ، قال : أخبرنا أبو رجاء العُطارديّ ، قال : كنا في المسجد الجامع ، ومقرئنا أبو موسى الأشعريّ ، كأني أنظر إليه بين بُردين أبيضين قال أبو رجاء : عنه أخذت هذه السورة : اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، وكانت أوّل سورة نزلت على محمد .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : أوّل سورة نزلت من القرآن اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهديّ ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أوّل ما نزل من القرآن : اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ وزاد ابن مهدي : ن والْقَلَمِ .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت عُبيد بن عُمير يقول : أوّل ما أنزل من القرآن اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ .

قال : ثنا وكيع ، عن قُرّة بن خالد ، عن أبي رجاء العطارديّ ، قال : إني لأنظر إلى أبي موسى وهو يقرأ القرآن في مسجد البصرة ، وعليه بُردان أبيضان ، فأنا أخذت منه اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، وهي أوّلُ سورة أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم .

قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إن أوّل سورة أُنزلت : اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . ثم ن والقَلَمِ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ} (3)

{ اقرأ }

وفعل { اقرأ } الثاني تأكيد ل { اقرأ } الأول للاهتمام بهذا الأمر .

{ وَرَبُّكَ الأكرم } .

جملة معطوفة على جملة : { اقرأ باسم ربك } فلها حكم الاستئناف ، و { ربك } مبتدأ وخبره إما { الذي علم بالقلم } وإما جملة : { علم الإنسان ما لم يعلم } . وهذا الاستئناف بياني .

فإذا نظرتَ إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئاً عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول : كيف أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة ، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم ، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم .

وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل : « ما أنا بقارىء » فالمعنى : لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإِملاء والتلقين والإِلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً .

ومقتضى الظاهر : وعَلَّم بالقلم . فعُدل عن الإِضمار لتأكيد ما يشعر به { ربّك } من العناية المستفادة من قوله : { اقرأ باسم ربك } وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبدَه إتماماً لنعمة الربوبية عليه .

وليجري على لفظ الرب وصفُ الأكرم .

ووصف { الأكرم } مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغاً للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة .

والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى ، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد ، وكيفية الخلق ، والإِمداد .

وقد جمعت هذه الآيات الخمسُ من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوَصفُ الرب يتضمن الوجود والوحدانية ، ووصف { الذي خلق } ووصف { الذي علم بالقلم } يقتضيان صفات الأفعال ، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها . ووصف { الأكرم } يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص .

ومفعولا { علم بالقلم } محذوفان دل عليهما قوله : { بالقلم } وتقديره : علّم الكاتبين أو علّم ناساً الكتابة ، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النُّميري :

كما خُطّ الكتابُ بكفِّ يَوماً *** يَهُودِيَ يقارِب أو يُزيل

ويتفاخر من يعرف الكتابة بعِلمه وقال الشاعر :

تعلّمْتُ بَاجَاد وآل *** مُرَامِرٍ وسوَّدت أثوابي ولستُ بكاتب

وذُكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار ، وأدخل الكتابة إلى الحجاز حربُ بن أمية تعلمه من أسْلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مُرامِر بن مُرة وكان الخط سابقاً عند حمير باليمن ويسمى المُسْنَد .

وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلُها معترضة بين المبتدإ والخبر للإِيماء إلى إزالة ما خطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة فكيف القراءةُ إذْ قال للملك : « ما أنا بقارىء » ثلاث مرات ، لأن قوله : " ما أنا بقارىء " اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله : { اقرأ } ؛ فالمعنى أن الذي علّم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة .