مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ} (3)

أما قوله تعالى : { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال بعضهم : اقرأ أولا لنفسك ، والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم . أو اقرأ في صلاتك ، والثاني خارج صلاتك .

المسألة الثانية : الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم ، ومن أعطى ثم طلب عوضا فهو ليس بكريم ، وليس يجب أن يكون العوض عينا بل المدح والثواب والتخلص عن المذمة كله عوض ، ولهذا قال أصحابنا : إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلا لغرض لأنه لو فعل فعلا لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله ، فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية ، ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية ، فيكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره وذلك محال ، ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوها ( أحدها ) : أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية ، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية ، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية ، ومنه قول القائل :

متى زدت تقصيرا تزد لي تفضلا *** كأني بالتقصير أستوجب الفضلا

( وثانيها ) : إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعا إما مدحا أو ثوابا أو يدفع ضررا . أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم ( وثالثها ) : أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ( ورابعها ) : يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشرا أو حثا على الإخلاص ، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع علي أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك ، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحدا فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكليف الشاق ثم لا أنصرك .

المسألة الثالثة : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه : { خلق الإنسان من علق } وثانيا بأنه علقة وهي بالقلم ، ولا مناسبة في الظاهر بين الأمرين ، لكن التحقيق أن أول أحوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالما بحقائق الأشياء ، وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول : انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة ، ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات الإنسانية ، كأنه تعالى يقول : الإيجاد والإحياء والإقدار والرزق كرم وربوبية ، أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف .

المسألة الرابعة : قوله : { باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة