ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب : إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم{[10605]} به كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد{[10606]} صلى الله عليه وسلم وببعثه{[10607]} وصفتة ، وبلده ومُهَاجَرِه ، وصفة أمته ؛ ولهذا قال بعد هذا : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خسروا كل الخسارة ، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل ، يعرفون أنما هو إله واحد لا جماعة الاَلهة ، وأن محمدا نبيّ مبعوث ، كما يعرفون أبناءهم . وقوله : الّذِينَ خَسِروا أنْفُسَهُمْ من نعت «الذين » الأولى ، ويعني بقوله : خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ أهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا أنه لله رسول مرسل ، وهم بحقيقة ذلك عارفون فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول : فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون . وقد قيل : إن معنى خسارتهم أنفسهم : أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ، وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، فذلك خسران الخاسرين منهم لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار ، بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله وظلمهم أنفسهم ، وذلك معنى قول الله تعالى : الّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
وبنحو ما قلنا في معنى قوله : الّذِينَ آتيْناهُمُ الكِتابِ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابٍ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ يعرفون أنّ الإسلام دين الله ، وأن محمدا رسول الله ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ النصارى واليهود ، يعرفون رسول الله في كتابهم ، كما يعرفون أبناءهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ : يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم ، أنهم قالوا : والله لنحن أعرف به من أبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء .
{ الذين } رفع بالابتداء وخبره { يعرفونه } و { الكتاب } معناه التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل على الجنس ، والضمير في { يعرفونه } عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله : { قل إنما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب ، و { الذين خسروا } على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة { الذين } الأولى ، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة .
قال القاضي أبو محمد : وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه ، وأن الذم والاستشهاد ليسا من جهة واحدة ، وقال قتادة والسدي{[4860]} ، وابن جريج : الضمير عائد في { يعرفونه } على محمد عليه السلام ورسالته ، وذلك على ما في قوله : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم } [ الأنعام : 19 ] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليَّ ، وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يدل على ذلك قوله لعبد الله بن سلام إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة فقال عبد الله بن سلام نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه ، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه .
قال القاضي أبو محمد : وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه ، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطىء الأب فيها ، وقالت فرقة : الضمير من { يعرفونه } عائد على القرآن المذكور قبل .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص ، كأنه وصف أشياء كثيرة ، ثم قال : أهل الكتاب { يعرفونه } أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى : { الذين خسروا } الآية ، يصح أن يكون { الذين } نعتاً تابعاً ل { الذين قبله } ، والفاء من قوله { فهم } عاطفة جملة على جملة ، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم ، ويصح أن يكون { الذين } رفعاً بالابتداء على استئناف الكلام ، وخبره { فهم لا يؤمنون } والفاء في هذا جواب ، { وخسروا } معناه غبنوها ، وقد تقدم . وروي أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهاهنا هي الخسارة بينة والربح للآخرين .
جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن . أظهر الله دليلاً على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] ، فإنّه لمَّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به ، لأنّه هو الآية المعجزة العامَّة الدائمة . وقد علمت آنفاً أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالاً لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته ، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ { الذين آتيناهم الكتاب } بعض أهل الكتاب ، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل ، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها . وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس .
فالضمير المنصوب في قوله : { يعرفونه } عائد إلى القرآن الذي في قوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } [ الأنعام : 19 ] . والمراد أنَّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم ، ومن ذلك رسالة من جاء به ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم من البشارة به . والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى : { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
والتشبيه في قوله : { كما يعرفون أبناءهم } تشبيه المعرفة بالمعرفة . فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به ، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف ، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً .
وقيل : إنّ ضمير { يعرفونه } عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله : { إنّما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] وهذا بعيد . وقيل : الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحاً ولا تأويلاً . ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجَّة وهي القرآن .
وقوله : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم ، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } [ النساء : 87 ] . فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة ، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب ، كقوله { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } [ الأحقاف : 10 ] . وقيل : أريد بهم أهل الكتاب ، أي الذين كتموا الشهادة ، فيكون { الذين خسروا } بدلاً من { الذين آتيناهم الكتاب } .