يقول تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } ومعناه : أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا ، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا{[12434]} أنهم على شيء ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 44 ، 45 ] ؛
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : والذين كذّبوا بأدلتنا وأعلامنا ، فجحدوها ولم يتذكروا بها ، سنمهله بغرّته ونزين له سوء عمله ، حتى يحسب أنه هو فيما عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن ، وحتى يبلغ الغاية التي كتب له من المهل ، ثم يأخذه بأعماله السيئة ، فيجازيه بها من العقوبة ما قد أعدّ له . وذلك استدراج الله إياه . وأصل الاستدراج اغترار المستدرج بلطف من حيث يرى المستدرج أن المستدرج إليه محسن حتى يورّطه مكروها . وقد بيّنا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا}، يعني بالقرآن، {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}، يعني سنأخذهم بالعذاب من حيث يجهلون، نزلت في المستهزئين من قريش...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين كذّبوا بأدلتنا وأعلامنا، فجحدوها ولم يتذكروا بها، سنمهله بغرّته ونزين له سوء عمله، حتى يحسب أنه هو فيما عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن، وحتى يبلغ الغاية التي كتب له من المهل، ثم يأخذه بأعماله السيئة، فيجازيه بها من العقوبة ما قد أعدّ له. وذلك استدراج الله إياه. وأصل الاستدراج: اغترار المستدرج بلطف من حيث يرى المستدرج أن المستدرج إليه محسن حتى يورّطه مكروها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}... فيه الوعد لرسول الله بالنصر والظفر على أعدائه. والاستدراج هو: الأخذ في حال الغفلة من حيث أمن بغتة كقوله تعالى: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} [الأعراف: 95]. وقال قائلون: الاستدراج: المكر، لكن معنى ما يضاف الاستدراج والمكر على الخلق غير المعنى الذي يضاف إلى الله، [والجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق]، والكيد الذي يضاف إلى الخلق مذموم، والكيد الذي يضاف إلى الله محمود، وكذلك ما أضيف إلى الله من المكر والخداع والاستهزاء ونحوه، وهو ما ذكرنا على اختلاف الجهات. والمعنى في الجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق؛ لأن الله تعالى يأخذهم مما يستوجبون، ويستحقون بحق الجزاء والمكافآت، فلا يلحقه في ذلك ذم. وأما الخلق في ما بينهم يمكرون، ويكيدون لا على الاستحقاق والجزاء. وعن الحسن في قوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [أنه] قال: كلما جدّدوا المعصية جدّد الله لهم نعمة ليستهزئوا، ويأشروا، ويبطروا، ثم يهلكهم. وقال بعضهم: يظهر لهم النعم، وينسيهم الشكر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والاستدراج أن تنطوي على حالة منزلة بعد منزلة. وفي اشتقاقه قولان: أحدهما: أنه مشتق من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء. والثاني: أنه مشتق من الدرجة لانحطاطه من منزلة بعد منزلة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الاستدراج: استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة... ومنه: درج الصبي إذا قارب بين خطاه. وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء. ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى {سَنَسْتَدْرِجُهُم}: سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ما يراد بهم، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع أنهماكهم في الغيّ، فكلّما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أنّ مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية وعيد، والإشارة إلى الكفار و {سنستدرجهم} معناه سنسوقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب...
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى، وما عليهم من الوعيد، فقال: {والذين كذبوا بآياتنا} وهذا يتناول جميع المكذبين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد أهل مكة، وهو بعيد، لأن صفة العموم يتناول الكل، إلا ما دل الدليل على خروجه منه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... أقول: والمراد على هذا أنهم يسترسلون في غيهم وضلالهم، من حيث لا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله تعالى في المنازعة بين الحق والباطل، والمصارعة بين الضار والنافع، وكون الحق يدمغ الباطل، وما ينفع الناس يصرع ما يضرهم، كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء: 18] وقوله تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17].
وأما المعنى على القول الأول فهو إنذار لهم بهذه العاقبة وهو أن الله تعالى سيأخذهم بالعقاب وينصر رسوله عليهم ولكن بالتدريج وكذلك كان.
والجمع بين معنيي الاستدراج جائز هنا لظهوره فيمن نزل فيهم أولا وبالذات وهم كفار قريش الجاحدون والمبالغون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا مغترين بكثرتهم لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء فمازالوا يتدرجون في عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا ظهورهم في آخر معركة أحد وقال قائدهم أبو سفيان: يوم بيوم بدر- إلى أن كان الفتح الأعظم فهذا كله استدراج بمعنى التنقل في مدارج الغرور وبمعنى أخذ الله إياهم وإظهار رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى في هذا ولا ذاك.
وقد فسر السدي الاستدراج بالمعنى الثاني فجعله خاصا بأخذهم في غزوة بدر وفسر بعض المتقدمين الاستدراج بمعناه العام في اللغة كاغترار العصاة بالنعم التي تنسيهم التوبة وتلهيهم عن شكر المنعم. واقتصارهم عليه غفلة عن سبب النزول ومن أنزل فيهم. فهو كقوله تعالى في سورة القلم: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [القلم: 44] وقفى عليها بمثل ما هنا- والسورتان مكيتان- وهو قوله تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته.. هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله.. إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون. ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين.. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين!.. إنهم يتولى بعضهم بعضاً ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى!.. إنها سنة الله مع المكذبين.. يرخى لهم العنان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن، وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء؛ ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى: {قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به} في سورة الأنعام (57).
والاستدراج مشتق من الدّرَجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرِّجْل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيراً للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج، وهي أيضاً واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها، وتسمى هذه الدرجة مرقاة، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب، أي طلب منه أن يتدرج، أي صاعداً أو نازلاً، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة، فإنه مبني على تشبيه حُسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا.
ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى: {من حيث لا يعلمون} ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئاً استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار، ف {حيث} هنا للمكان على أصلها، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه، والتقدير: لا يعلمون تدرجه، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
. وإن ما يكون عليه الكافرون من ملاذ وزخارف لا يصح أن يكون علامة الرضا، بل هو في أكثر الأحوال علامة السخط، وقد قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)} (الزخرف)، وإن ذلك من إملاء الله تعالى، ليزدادوا ضلالا وفتنة. ولقد أكد الله تعالى ذلك فقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}.
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} (سورة الأعراف). وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها لتهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحكام المتقن... وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة. وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعلموا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك} (من الآية 47 سورة الطور): أي أن لهم عذابا قبل الآخرة. ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}...