إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ} (182)

{ والذين كَذَّبُواْ بآياتنا } شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه يعدِل العادلون ، وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب ، ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعده من الجملة الاستقبالية ، وإضافةُ الآياتِ إلى نون العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها ، أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي نستدنيهم البتةَ إلى الهلاك شيئاً فشيئاً ، والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة ، وإما بمعنى مشى مشياً ضعيفاً ، وإما بمعنى طوَى ، والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهلكِ ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب ، ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه ، فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتِرَ عليهم بالنعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزدادوا بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حالٍ وأشنعها ، والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى : { منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلقٌ بمضمر وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور ، أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه ، وقيل : لا يعلمون ما يراد بهم .