تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا} (21)

{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلامًا ، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد{[18739]} منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر{[18740]} ؛ ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي : دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم ، الذي نوع{[18741]} في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه .

وقوله : { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي ونجعل{[18742]} هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي : يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده{[18743]} وكهولته .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم - دُحَيْم - حدثنا مروان ، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي ، عن مجاهد قال : قالت مريم ، عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر .

وقوله : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته . ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]

قال محمد بن إسحاق : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي : أن الله قد عزم على هذا ، فليس منه بد ، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره ، ولم يحك غيره ، والله أعلم .


[18739]:في ت، ف، أ: "ولا يوجد".
[18740]:في أ: "قدير".
[18741]:في ت، ف، أ: "تنوع".
[18742]:في ت، ف، أ: "ويجعل".
[18743]:في ت، أ: "المهد".