{ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا ، ويبرهما بصنوف البر في
حياتهما وبعد مماتهما . والإحسان : خلاف الإساءة . وقرئ " حسنا " . نزلت هذه الآية إلى قوله " وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " في أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وهو مثل في الجمع بين التوحيد والاستقامة في الدين . { حملته أمه كرها ووضعته كرها } أي ذات كره ومشقة أثناء ثقل الحمل والوضع ؛ منصوب على الحال من الفاعل . وقرئ بفتح الكاف ، وهما لغتان بمعنى ؛ كالضعف والضعف . { بلغ أشده } أي بلغ زمن استحكام القوة وكمال العقل ، وقدر بثلاث وثلاثين سنة ؛ لكونه آخر سن النشوء والنماء . { وبلغ أربعين سنة } هو أكبر الأشد وتمام الشباب ؛ وهو سن النبوة عند الجمهور .
{ قال رب أوزعني } رغبني ووفقني إلى شكر نعمتك [ آية 19 النمل ص 121 ]
وصّينا الإنسان : أمرناه أن يفعل كذا . . ومثله أوصاه .
كُرها : بضم الكاف وفتحها : مشقة .
حَمْله وفصاله : مدة حَمْلِه وفطامه .
أشده : صار بالغا مستحكما القوة والعقل .
أوزِعني : ألهِمني ، رغّبني ، وفقني .
أصلحْ لي في ذريتي : اجعل لي خلَفاً صالحا .
ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين ، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الإنسان .
ووصّينا الإنسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما ، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا ، وفي وضعه آلاماً كثيرة ، ثم في إرضاعه وتربيته . فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها . . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم . وقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات .
روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمَّكَ ثم أمك ثم أمك ، ثم أباك » ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة .
وهناك حديث مشهور : « الجنّةُ تحت أقدام الأمهات » رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنه ، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنه .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين : «هما جنَّتاك ونارك » وفي البخاري ومُسْلم والترمذي : « أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم » والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتب الحديث .
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }
يعني أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا ، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية ، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها ، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل .
ويؤخذ من هذه الآية { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } ومن الآية : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فإذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به .
حتى إذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً ، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية ، يقول عندها : ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ ، ووفقني إلى العمل الصالحِ الذي ترضاه ، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والإيمان ، إني تُبت إليك من كلّ ذنب { وَإِنِّي مِنَ المسلمين } المستسلمين لأمرِك ونَهيك .
قرأ أهل الكوفة : إحسانا وقرأ الباقون : حسنا . وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو عمرو : كَرها بفتح الكاف . والباقون : كُرها بضمها وهما لغتان . وقرأ يعقوب : وفصله ، والباقون : وفصاله . وهما لغتان .
ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها ووفقه لها أسباباً قرن بالوصية بطاعته - لكونه المبدع - الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الإيجاد ، فقال في هذا السياق الذي {[58715]}عد فيه{[58716]} الأعمال لكونه{[58717]} سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها ، وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح{[58718]} ، وفي الترمذي{[58719]} : " رضى الله{[58720]} في رضى الوالدين و{[58721]}سخطه {[58722]}في سخطهما{[58723]} " وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته{ وإذ {[58724]}أخذ الله{[58725]} ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً- }[ البقرة : 83 ] { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً{[58726]} }[ النساء : 36 ] وكذا ما بعدهما{[58727]} عاطفاً على ما قدرته أول السورة من نحو{[58728]} أن يقال : وأمرنا الناس أجميعن أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين : { ووصينا الإنسان } أي هذا النوع الذي أنس بنفسه { بوالديه } ولما استوفى { وصى } مفعوليه{[58729]} كان التقدير : ليأتي إليهما حسناً ، وقرأ الكوفيون : { إحساناً } وهو أوفق للسياق .
ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره ، وذكر ما للأم لأن أمده يسير ، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو{[58730]} معللاً : { حملته أمه } أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها ، حملاً { كرهاً } بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه { ووضعته } أي بعد تمام مدة حمله { كرهاً } فدل{[58731]} هذا - مع دلالته على وجوب حق الأم - على أن الأمر في تكوينه لله وحده ، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى : { وحمله وفصاله } أي و-{[58732]}مدة حمله وغاية فطامه{[58733]} من الرضاع ، وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة { ثلاثون شهراً } فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وبه قال الأطباء ، وربما {[58734]}أشعر{[58735]} بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر لأن أغلب الحمل تسعة أشهر .
ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك{[58736]} في مؤنته{[58737]} الأبوان وتارة ينفرد أحدهما ، طوي ذكرهما ، وذكر حرف الغاية مقسماً للموصي{[58738]} إلى قسمين : مطيع وعاصي ، ذاكراً ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة ، إرشاداً إلى أن المعنى : واستمر كلاًّ على أبويه أو أحدهما { حتى{[58739]} إذا بلغ أشده } قال في القاموس : قوته ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين ، واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدة بالكسر مع أن-{[58740]} فعلة لا{[58741]} تجمع على أفعل ، أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب ، وما هما{[58742]} بمسموعين بل قياس - انتهى{[58743]} ، وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جداً{[58744]} ، وروى الطبراني{[58745]} في ترجمة ابن-{[58746]} أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، {[58747]}وهو الذي{[58748]} رفع عليه{[58749]} عيسى ابن مريم - قال{[58750]} الهيثمي : وفيه صدقة بن يزيد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات ، قال الزمخشري{[58751]} : وهو أول الأشد وغايته الأربعون .
ولما كانت أيام الصبى والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته{[58752]} ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهِر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية لما يحملانه{[58753]} عليه من نتائج الشهوات ونوازع الغضب والبطالات ، عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيهاً على ذلك ، فقال شارحاً للاستواء ومعبراً عنه : { وبلغ أربعين سنة }-{[58754]} فاجتمع أشده {[58755]}وتم حزمه{[58756]} وجده ، وزالت عنه شرة{[58757]} الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل ، ولذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء ، وهو يشعر بأن أوقات الصبى أخف{[58758]} في المؤاخذة{[58759]} مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد{[58760]} والأربعين { قال } إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه : { رب } أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد وتيسير{[58761]} الأبوين وغيرهما وتسخيره { أوزعني } أي اجعلني أطيق { أن أشكر نعمتك } أي وازعاً للشكر{[58762]} أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات ، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق ، ووحدها تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس .
ولما كان ربما ظن ظان{[58763]} أن المراد بنعمته قدرته على الإنعام ليكون المعنى : أن أشكر لك لكونك قادراً على الإنعام ، قال{[58764]} : { التي أنعمت عليّ } أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي { وعلى والديّ } ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن ، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ ، وقد مضى في النمل ما يتعين استحضاره هنا .
ولما كان المقصود الأعظم من النعمة الماضية نعمة الإيجاد المراد من شكرها التوحيد ، أتبعها تمام-{[58765]} الشكر فقال : { وأن أعمل } أي-{[58766]} أنا في خاصة نفسي { صالحاً }-{[58767]} . ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال : { ترضاه } والتنكير{[58768]} إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن{[58769]} يقّدر الله حق قدره أحد .
ولما دعا{[58770]} لنفسه بعد أن أوصى برعاية حق أبيه ، لقنه{[58771]} سبحانه الدعاء لمن يتفرع منه{[58772]} ، حثاً على رعاية حقوقهم لئلا يسلطهم على عقوقه فقال : { وأصلح } أي أوقع الإصلاح ، وقال : { لي في ذريتي } لأن صلاحهم يلحقه نفعه ، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سارياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين .
ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعاً فدعا ، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة ، علله بقوله : { إني تبت } أي رجعت { إليك } أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك ، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد {[58773]}منه الإقلاع فينكر{[58774]} إخباره به ، وكذا قوله : { وإني من المسلمين * } أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك{[58775]} فانقادوا أتم انقياد {[58776]}وأحسنه{[58777]} .