{ سبح لله ما في السموات . . . } نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم [ آية 1 الحديد ص 400 ] .
نزلت هذه السورة في نضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون بقرب المدينة . كانوا قد صالحوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ؛ فلما هزم المسلمون في غزوة أحد أظهروا العداوة له ، ونقضوا العهد ، وحالفوا قريشا على أن يكونوا يدا واحدة عليه صلى الله عليه وسلم . وكان أشدهم حربا على الإسلام ، وفحشا في الرسول صلى الله عليه وسلم زعيمهم : كعب بن الأشرف ، الذي اغتاله محمد بن مسلمة ، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة . ولما قذف الله في قلوبهم الرعب أيسوا من نصرة المنافقين لهم كما وعدهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالمدينة – طلبوا الصلح فأبى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء ؛ على أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال ، إلا السلاح ، فجلوا إلى خيبر والحيرة ، وأريحاء وأذرعات بالشام . وكانوا أول من أجلى من أهل الذمة من الجزيرة . وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة . ثم أجلى آخرهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ وهو آخر حشر لهم منها . وقد دبروا أثناء الحصار الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم والفنك به ؛ فأطلعه الله على كيدهم .
سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون ، نزلت بعد سورة البيّنة . وقد نزلت السورة بكاملها في حديث بني النّضير من اليهود ، وكانوا في ضواحي المدينة في الجهة الشرقية منها على بُعد عدة أميال ، وكان نزولها في السنة الرابعة من الهجرة . وكان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين بني النضير حلف وعهد ، فذهب رسول الله ومعه عدد من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم ، إلى بني النضير ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أميّة الضّمري وهو لا يعلم أن معهما عهدا من رسول الله . فاستقبل يهود بني النضير الرسول الكريم وأصحابه خير استقبال ، وأظهروا له كل ترحيب ووعدوا بخير . لكنهم أضمروا الغدر . فلما أحس الرسول عليه الصلاة والسلام بالخيانة والغدر ترك أصحابه وذهب إلى المدينة ، ثم تبعه أصحابه لما استبطأوه ، فلما لحقوا به أخبرهم بما رآه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به .
وقد بعث الرسول محمد بن مَسلمة ، أحد أصحابه وقال له : " اذهبْ إلى يهود بني النضير وقل لهم : إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي ، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ، لقد أجّلتكم عشرا ، فمن رُؤي بعد ذلك ضربت عنقه " . ومكثوا أياما يتجهزون للخروج ، فجاءهم رسولان من عند رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ وقالا : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم .
وتشاوروا في الموضوع طويلا ، وقال لهم بعضهم : إن ابن أبيّ غير صادق . ألم يعِد بني قيْنقاع من قبل ، ولما جدّ الجدّ تخلى عنهم ! وأخيرا قال كبيرهم حُيّي بن أخطب : كلا ، بل أنا مرسل إلى محمد ، إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا ، فليصنعْ ما بدا له ، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة ، وعندنا الماء . وهكذا صمّموا على البقاء .
وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا ، فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة ، وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ ، رأس المنافقين . فلما يئسوا وملأ الرعب قلوبهم ، سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة ، فصالحهم على أن يخرجوا ، لكل ثلاثة بعير ، يحملون عليه ما شاؤوا من الطعام والمال ولا يأخذون سلاحا أبدا . وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح . وفي ذلك كله نزلت سورة الحشر ، وكان نصر الله عظيما .
وقد بدئت هذه السورة الكريمة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض ، ثم بينت حكم الفيء ، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب ، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم . ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهم ، وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروا به .
وبيّنت كذب المنافقين وعدم وفائهم بوعودهم لنصر اليهود في قولهم : { لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ، ولئن قوتلتم لننصرنّكم } ، وفضحت كِذبهم في ذلك .
ثم ذكّرت المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله والتزود للمستقبل ، والاستعداد الدائم ، لا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم .
وختمت السورة بأعظم ختام ببيان شأن القرآن العظيم ، وما له من تأثير كبير ، وأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى . . وهكذا يتناسب البدء مع حسن الختام .
مدنية في قول الجميع ، وهي أربع وعشرون آية ، روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ سورة الحشر لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له ، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا ) . خرجه الثعلبي . وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ آخر سورة الحشر{[1]}{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل }[ الحشر : 21 ] - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا ) . وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به{[2]} سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك ) . قال : حديث حسن غريب .
تقدم{[14808]} .
سورة الحشر{[1]} وتسمى سورة النضير{[2]} ، مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل{[3]} شهودي على أنه يغلب هو ورسله ، ومن حاده في الأذلين ، لأنه قوي عزيز ، المستلزمة للعلم التام المستلزم [ للحكمة البالغة المستلزمة-{[4]} ] للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على وجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال ، وأدل{[5]} ما فيها على ذلك تأمل قصة [ بني{[6]}- ] النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون ، فلذا{[7]} سميت بالحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم [ وغيرهم{[8]}- ] من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين ، لأنهم{[9]} أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما{[10]} لهم من الدين الذي أصله قويم{[11]} بما لوحت إليه الحديد ، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء ، كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد{[12]}- الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة{[13]} ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي لا راد لأمره{[14]} فلا خلف لعباده ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده فلا محيص عن معاده ( الرحيم ) الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده{[15]} .
لما{[63590]} ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته ، ومذل أهل معصيته ومحادته ، علله بتنزهه{[63591]} عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال : { سبح } أي أوقع التنزيه{[63592]} الأعظم عن كل شائبة نقص { لله } الذي أحاط بجميع صفات{[63593]} الكمال .
ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من{[63594]} الكواكب ، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة ، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال : { ما في السماوات } أي كلها . ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذين يحادون الله ، وكان ذلك لمن دون الخلص ، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال : { وما } ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها ، أفرد فقال : { في الأرض } .
ولما شمل هذا جميع العالم ، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال : { وهو } أي والحال أنه وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء{[63595]} { الحكيم * } الذي نفذ علمه{[63596]} في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن{[63597]} ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً ، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً .
وقال الإمام {[63598]}أبو جعفر{[63599]} بن الزبير : لا خفاء باتصال أيها بما{[63600]} تأخر من آي سورة المجادلة ، ألا ترى أن قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ، ثم قال في آخر السورة :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } ، فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع{[63601]} ما ارتكبوه ، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم{[63602]} وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم ، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه من سوء مرتكبهم ، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه ، وتناسج الكلام ، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب ، وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم{ أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل }[ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى :{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }[ المائدة : 78 ] ، فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم ، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع ، فلما كان الغضب{[63603]} مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك ، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال :{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض } وإنما يرد{[63604]} مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع ، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل{[63605]} بما تقدم ، ثم تناسجت الآي - انتهى .
هذه السورة مدينة وآياتها أربع وعشرون . وهي سورة بني النضير ، وذلك لكبير المجال الذي احتله الحديث عنهم في السورة ، على أن بني النضير فئة من اليهود أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خارج المدينة ، إذ ذهب بعضهم إلى خيبر ، وذهب آخرون إلى أرض الشام وهي من أرض المحشر يوم القيامة . ولقد أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم بما نقضوه من المواثيق وخيانتهم للعهود .
وفي السورة بيان بالفيء من حيث معناه وحكمه وكيفية تقسيمه . وهو المال المأخوذ من المشركين من غير قتال ، إذ ينتزع المسلمون منهم المال الفاضل عن حاجتهم عقب قتالهم والتغلب عليهم . وذلك لإضعافهم وثنيهم عن قتال المسلمين ، ذلك أن الظالمين يتقوون بالمال على حرب الإسلام والمسلمين . فهم بالمال يستطيعون أن يملكوا وسائل الحرب والقتال من السلاح بمختلف أصنافه وغير ذلك من أسباب القتال ولوازمه لا جرم أن المال في أيدي المشركين الظالمين لهو وسيلة أساسية وكبرى تمكنهم من العدوان على المسلمين وإشاعة الشر والأذى والإرهاب والأراجيف في الأرض ، فإذا انتزعت منهم هذه الوسيلة المؤثرة الخطيرة ، قبعوا خاسئين خاضعين خانعين وقد سكنت فيهم بواعث الشر وأخرست فيهم ألسنة السوء من الدعاية الفاجرة الظالمة ، والتحريض المدمّر الشرير ومن أجل ذلك كله شرع الإسلام انتزاع المال من أيديهم إلا ما كانوا يحتاجون إليه ليعيشوا في ظل الإسلام آمنين سالمين .
{ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولى الأبصار 2 ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار 3 ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب 4 ما قطعتم من لّينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } .
يبين للناس أن كل شيء في السماوات أو في الأرض يعظمه تعظيما ويمجّده تمجيدا ، وهو مذعن له بالوحدانية والإلهية وأنه الرب القادر ذو الملكوت ، { وهو العزيز الحكيم } العزيز يعني القوي القاهر المنتقم من الظالمين المتجبرين ، وهو الحكيم في تدبير أمور خلقه ، وهو قوله سبحانه : { سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .